ثقافة

العام العتيد..

وسام محمد ونوس
تتصاعدُ الأمنياتُ كلّ نهايةِ عامٍ وبدايةِ آخر, فقد اعتادَ النّاسُ على وصفِ السّنينِ بصفاتٍ بشريةٍ. هذه سنةٌ سيّئة, وتلك سنةٌ جميلة, وأخرى مميّزة, وهكذا إلى ما لا نهاية الصّفاتِ تبعاً لما مرّ على كلّ إنسانٍ من أحداث. فَمَنْ عاشَ سنةً مليئةً بالإنجازاتِ والفرح, يتمنّى استمرارَ فرحهِ في السنةِ التّالية, ومن عاشَ سنةَ خيباتٍ وحزن, يتمنّى بالتأكيدِ زوالَ أسبابِ ضيقهِ وانقشاعَ غيومِ الهمّ. تتصاعدُ الأمنياتُ مُزاحِمةً خطوطَ أضواءِ الألعاب النّارية, لكنّها لا تظهرُ لنا بالعينِ المجرّدة, بل تعبرُ السّماءَ لتَعْلقَ على النّجومِ وتنتظرُ دورَها في التحقّق! أيّامٌ مرّتْ وأخرى آتية, ما الّذي تغيّر؟ ما الّذي سيتغيّرُ إن انتهى عامٌ وبدأ آخر؟ هي عادةُ البشرِ في خلقِ الأمل من لاشيء, في اختراعِ التفاؤلِ من أوراقِ التّقويم, في الاعتمادِ على الأرقامِ والحساباتِ لمحاولةِ مواصلةِ العيشِ بسعادةٍ, في انتظارٍ شيءٍ ما, أو حدثٍ ما أو ربّما حياةٍ بأكملِها. قطراتُ المطرِ تتساقطُ على الأرضِ لتغسلَ ما تيسّرَ لها من بقايا حروبِ البشر, والأمنيات تتصاعدُ مقاومةً ارتطامَها بالقطراتِ, مصرّةً على بلوغِ السّماء. هي أمنياتٌ مشروعةٌ تُحمّلُ على ظهرِ سنةٍ لا حولَ لها ولا قوّة, فأمرُ أيّامِ هذه السّنةِ بيدِ البشر, أحداثُها رهنُ أفعالِهم, وتقييمُها مرتبطٌ بما يستطيعونَ تقديمهُ لبعضهم البعض, إن كانَ خيراً أم شرّاً, حرباً أم سلاماً, حياةً أم موت. لا ضيرَ من التفاؤلِ, كلّنا مدعوّونَ لحقلةِ أملٍ صاخبةٍ مع بدايةِ كلّ عام, نقيمُ لدعواتِنا أعراسَ دموعٍ, ونرسمُ لأحلامِنا دروباً مفروشةً بالورد, هذا أبسطُ حقوقنا وأقلّ ما يمكننا فعله. لكنّ الواقعَ  يقولُ غير ذلك, لا أحلامَ في زمنِ السّهد, لا فسحةَ أملٍ في زمنِ العيشِ الضّيق, اللّيلُ يطولُ ويطولُ والفجرُ في سُباتٍ شتويّ قاهر. لم يعد الفرحُ مجّانياً كما كان, باتَ يُكلّفُ الكثيرَ من المالِ والجهدِ والدّماء! حتّى محاولةُ سرقتهِ تبوءُ دوماً بالفشل, فقد استطاعتْ طبقةُ رأسِ المالِ أن تسجنهُ في أقبيةٍ مُعتِمة, وتبيعَ منهُ الفتاتَ على أرصفةِ الدولار. لم يعد بمقدورنا أن نتغنّى بمصطلح (الطبقةِ الوسطى), فقد التَهَمَتها حيتانُ الأزماتِ بعدَ أن تعفّنتْ جثّتُها على قارعةِ الصّبر. تتصاعدُ الأمنياتُ من قلوبٍ بنى الصّدأ على أبوابِها محارسَ ومتاريس, واستأجرَتْ العناكبُ زواياها منذُ هجرةِ النّبض. تتصاعدُ الأمنيات من شقوقِ جدرانِ بيوتٍ تتنهّدُ الحزنَ, كما تتصاعدُ الضّحكاتُ من أفواهِ تُجّارِ العقارات. تتصاعدُ الأمنيات من بقيّةِ أرواحٍ تكادُ تنسلخُ عن أجسادِها, كما تتصاعدُ روائحُ العطرِ من أجسادٍ تلتهبُ بحركاتِها على مسارحِ الرّقص. مشاهدُ متناقضةٌ كلّ نهايةِ عامٍ, في حيّ واحد, في بنايةٍ واحدة, وربّما في أسرةٍ واحدة أيضاً. الأمنياتُ تتصاعدُ وربّما تتشابهُ في معظمِها, أو حتّى تتداخلُ دروبُها نحو السّماء, ربّما تتقسّمُ إلى طبقاتٍ أيضاً, فتلتقي أمنياتُ الفقراءِ لتشكّلَ أمنيةً واحدةً ضخمة, يقابلُها أمنياتُ الأغنياءِ في كتلةٍ واحدةٍ أيضاً, كالماءِ والنّار, لا يمكنُ للكتلتينِ أن يلتقيا, كلّ كتلةٍ تشكّلتْ من موادَ مختلفة, ولها هدفٌ مختلف, وربّما تحرّكها طاقاتٌ مختلفة. انتهى عامٌ وبدأ آخر, والحربُ هي الحرب, لا حربَ قديمة وأخرى جديدة, لا نهايةَ لحربٍ وبداية لأخرى, تمر السنينُ ثقيلةً كأنّها تحملُ أمنياتِها على ظهورها لترميها على ظهرِ السّنةِ الآتيةِ. كيف تتحققُ صغارُ الأمنياتِ ومازالَ أجدادُها ينتظرونَ ساعةَ الحقيقة؟ أجيالٌ ربّما من الأمنيات تستمرّ في العبورِ على دروبِ مخيّلاتِنا, ونحنُ نخلِقُ أجيالاً جديدةً, واليومُ الموعودُ لكلّ أمنيةٍ يقفزُ من سنةٍ إلى أخرى, غير مكترثٍ بلهفتنا وانتظارنا.
الأمنياتُ تتصاعدُ مع اقترابِ ولادةِ أوّلِ دقيقةٍ في العام الجديد, الكلّ في هذه اللحظاتِ يحاولُ أن يحلم, حتّى أولئكَ الّذينَ سُرِقَتْ أحلامُهم في حضرةِ نُعاسهم, حتّى المشرّدونَ في بقاعِ الوطن, حتّى المحكومونَ بإعدامِ الشوق, حتّى المسبيّةِ ابتساماتهم على أسرّةِ الفقد, الكلّ يحاولُ الاختباءَ وراءَ إصبعٍ مبتور, والسّنةُ الجديدةُ بكاملِ أناقةِ زفافها, تبتسمُ كأنّها طفلة, قبلَ أن تكبرَ ويزيدُ وزنُ أحداثِها, ثمّ تبدأ العَدوَ على ظهورِ أحلامِنا, واحداً تلو آخر, ونحنُ نصفّقُ للحلمِ الّذي صمدَ ومازالَ في جسدهِ بقيّةُ روح. كلّ عامٍ نعودُ إلى تلكَ اللحظة, لا نتعلمُ من أخطائنا أبداً, ربّما لأننا نريدُ لهذا الخطأ أن يصبحَ صواباً رغماً عن إدراكنا ويقيننا.
كلّ عامٍ نتوسّلُ انتهاءَ مأساتِنا, ونطلبُ انتفاءَ أسبابِ حزننا, ونرجو لصراعاتِنا نهايةً فجائيةً قدريةً مُفرحة. كلّ عامٍ نحتكمُ للعرّافينَ والمنجّمين, ونصدّقُ ما نعلمُ أنّهُ الكذبُ بعينه, ليسَ لنا إلا أن نصدّق, لنحيا, لنستمرّ, لنتمنّى!