ثقافة

“على الأرجح نحن من يغني الآن” مقامات وجدانية ألقت مرساتها في قلب عاصفة..

خيوط صبح أليفة، تغزلها الشاعرة”رولا حسن”في مجموعتها الشعرية “على الأرجح نحن من يغني الآن” وهي تلم حطب اللغة اللين، لتوقد من شجر الكلمات الأخضر قصائدها الرهيفة, منتخبة هذه المرة القلق الوجودي الأنثوي كمسرب هادئ للولوج إلى جوانيات هادئة في شكلها المتوضع باطمئنان على الورق، إلا أنها تضج بصخب الصور الشعرية العالية المزاج، تلك التي تبوح من خلالها صاحبة “شتاءات قصيرة” بمواطن تداعياتها السردية الإنسانية، إنما بمنطق مغاير لما تخوض فيه القصيدة الأنثوية بشكل عام،  بدءا من عنوان ديوانها “على الأرجح نحن من يغني الآن” الذي يحيل قارئها إلى التخلي عن شرط التخيل المسبق لما ستفضي إليه الدلالات اللفظية المتوهجة في قصائدها،إن كان في الحضور الطاغي للتجليات الحسية الرهيفة التي تحيك عوالم المرأة المكشوفة هنا قصدا ودون مواربة، أو بالتغييب المقصود لانعكاس أخيلتها على جدران المعنى الشعري،بما لهذه الأخيلة من صفات كسيرة في الوعي الجمعي لذاكرة الكتابة الأنثوية بشكل عام، وهذا ما تفتتح به “حسن” مقاماتها الخاصة في مجموعتها الشعرية، المبوبة بخمسة عناوين لا تخفى انحيازاتها الأكيدة للوجدان الأنثوي بما لهذه الأبواب، من إشراقات لحظية على عوالم أخرى، إلا أنها لا تنفك عن الهبوب من النوافذ المشرعة في قصيدة صاحبة “نصف قمر” نحو صوتها الواثق والأكيد رغم خفوت نبرته اللفظية. وهذه الأبواب هي: “نساء، مدن، وجوه، شبابيك، معجم الورد”.

نساء
“مثلي متوجات بالماء /مشغولات بتعب النهارات/مثلي مأهولات بالغياب/ مثقلات بالوحشة / أكثر ما نتقنه تنقية الحياة من الشتاء/وأكثر ما نعرفه /ذلك الحزن الذي ينمو كماء في العينين”.
نساء الشاعرة لسنَ في وارد النكوص لماضي ألم سحيق، قابع في دواخلهن منذ ملايين النهارات الباردة، كما أنهن لا يتهربن من سياط  الوحشة والفقد والخذلان، بقدر ما يحكن من ذكرى تلك السياط “جسارات المجتمع الذكوري” حاضرا ليس أقل قتامة، لكن كثافتهن في مراميه أرسخ عمقا، وأيديهن أكثر انهماكا بشؤون الحياة الحارة فيه، بعيدات في صمتهن العالي، عن ضجيج المطالبة الجافة في أروقة ومنابر تسول العطف، بحياة تنصف حضورهن المادي والروحي، لسبب بسيط جدا، وهو ثقتهن المطلقة، بلا جدوى مرور الحياة، إلا عبر نسغهن، لأنها إن حدث ومرت بغير مساربهن، فلا أثر حقيقي سيخلفه هذا العبور المتشابه حد السأم لأوجهها وصبغياتها الجينية الفقيرة بالحب، إنهن مشغولات بإقناع أنثى أخرى”السماء”، بأن لا ترخي بكامل حبر ذوائبها الغامق، على أكتاف الأفق، ليبقى للقمر برمزيته الذكورية، ما يفعله، حتى لو كان هذا الفعل اللاإرادي للقمر، لا يتعدى السقوط على وجهه هائما في أحضانهن.
“نحن اللواتي قلنا للسماء اقتربي/ قبل أن يلوحنا ليل/عل قمرا يسقط في شرفة اليدين”.
مدن
هذه المدينة تشبهني /كالحة كروحي /قلقة كعاصفة /هادئة كموت /على أطرافها يزهر الصبار في العيون /هواؤها يعبق بخوف/ ومن يعبق بخوف يشم.
لا تحضر المدن في قصائد الشاعرة كحلم بعيد المنال، أو كعالم مواز حتى لما تبتكره إيحاءاتها الشعرية من مدنية خاصة بها، مدنية لا تقيم وزنا للإكسسوارات والنجوم المقلدة وما صارت تعنيه تلك البدائل الميتة، من معيار شرطي ووحيد لتبدل الأمزجة الفكرية حينا والرمزية حينا آخر، مدن الشاعرة تعيش في دواخلها، تنبض علائقها الحية بزخم خاص بين ما تقترحه مفرداتها وتراكيبها اللغوية من صور هادئة، شاحبة، حقيقة، وبين ما تتوجسه في انفلات قصيدتها من رتابة اليومي واستهلاكيته لكل ما يعني لها شيئا، يخصها كامرأة،وكأن مدنها  نساء أخريات قادمات من وجع واحد، ليبحن بوجع وحيد أيضا.
“المدن تتسع/وقلوبنا تضيق/إلى أين نمضي/والخراب يزهر في الوقت”.
وجوه
لن ازدحم معهم خلف مرآتك/كوجه واحد/سأختار مرآة وازدحم فيها/كبلاد”.
يجيء الحب في “على الأرجح نحن من يغني الآن” بثقله المادي وانبلاجاته العفوية تارة والفجة تارة أخرى، كوجه مختلف التقاسيم والملامح، لكنه يترك انطباعا واحدا عندما يقع عليه النظر، وهنا لا بد من القول أن “حسن” راكمت خبرتها الإنسانية واللغوية الشعرية، لتوجز كما ينبغي هذا الحضور الثقيل، بخفة المعنى ورشاقة تجليه، بحيث صارت الوجوه التي تطالع قصيدتها، عناوين افتراضية لمقامات هاجعة في ذاكرتها، تستعيدها بهدأة بعد زمن من محاولتها إقصائها، وعندما تدرك خيبة المسعى، تعود لتسمي تلك الوجوه بمسمياتها الخاصة، قد يكون الوجه يد، وقد يكون كلام قيل على عجل وأرخى ما أرخى من ظلال لا تمحى شبهتها، إلا أن ما يميز تلك الوجوه المختلفة، هو ما تشي به، ما تسرده ملامحها من حكايا، تخبرنا بها الشاعرة بطريقتها الخاصة:
“سيمضي وقت قبل أن اكتشف/أن كل ما قالته يداك/كان صحيحا/وأن الكلام لم يكن/
سوى ذلك الليل الذي عبرناه”.
تجمع صاحبة “حسرة الظل” في مجموعتها “على الأرجح نحن من يغني الآن” كما في مجموعاتها الشعرية السابقة، جماليات شكل القصيدة الممثلة ف: الصورة والتخييل والرمز والرؤية المكثفة وتوهج اللفظة وعمق الرؤيا وشفافيتها. وجماليات النثر الممثلة في: التحرر من أسر الوزن الشعري، والانطلاق في آفاق التحرر اللفظي والتركيبي؛ وهي إذ تتعامل مع الشعر وفق منطق الصورة الملتقطة بعدسة الحنين حينا والشغف  حينا آخر، فإنها أيضا تترك أشرعة مفرودة للتداعي الحر والسقوط المقصود بلجة الانسياق خلف ما تفرضه طبيعة اللحظة الشعرية، المقبوض عليها بحنكة عالية ودراية عميقة بالأشغال اللغوية الصافية من شوائب الإسهابات والاستطالات غير المجدية.
“على الأرجح نحن من يغني الآن” المجموعة الشعرية الخامسة للشاعرة السورية رولا حسن الصادرة عن دار “بعل “هي ارتحالات غنائية بين مقامات الحنين والحب والذاكرة، عزف بيد مكتظة بالأصابع، لمقطوعات شعرية وجدانية,تنهل من الذاتي لتعطي له أيضا، ولكن بهدوء من ألقى مرساته في قلب العاصفة.
تمام علي بركات