تراتيل خضر عكاري.. دعوة لصبحٍ قادمٍ موشّى بالأماني
بعد أربع عشرة مجموعة اختار صاحبها الشاعر المشاكس” خضر عكاري” أن ينظم تراتيل يرجو فيها صحواً ما ونهضة منشودة، عبر مجموعة شعرية لم يحاول فيها الخروج من خط رسمه لذاته ولعباراته، هو المتفرد المنفرد المتمرد الذي يأخذ قارئه في رحلة بين عباراته القصيرة المتقافزة، تومض بالحنان والشوق حيناً وتلمع كسيف خرج من غمده للتو حيناً آخر.
صاحب “أفاميا العاشقة”و”سومريات” المشغول بهمومه وهموم الآخر، الآخر الذي هو إنسان هذا الزمان المحاصر والمسحوق غالباً، الباحث عن الأمل، يرتل له عكاري لصباح قادم موشوماً بالأماني، في دعوة لقيامة وانقلاب على الكابوس الذي يرزح تحته هذا الإنسان، وبرغم تجذره في هذه الأرض تراباً، حضارة وإنساناً، فالشاعر يشكو اليباس الذي طال الكثير من الأشياء والعقول والحلق في قصيدته التي حملت المجموعة اسمها:
جف النبع وراح يصلي/في حضن ضفاف الساقية “الماء”/غناء العشب النامي/في جفن رطوبة أمسية/كان الرعد يعد وليمته المرهونة/بين مخالب وعد أحمق؟! ص7
هي تراتيل للأيقونة الأولى أن ثوري على الخناجر:
“بردى ينهر ضفتيه/شالفاً ينابيعه الناقمة!/يلعق لسانه الوحلي/خواصره… الموجوعة بالحور الغافي على فخذيه!/يبست أغانيك الفيروزيات/والتطى قاسيون صدر اليباب! شقي تنورتك المرقعة بالغياب/يا شام/وجاهري بالجراح/تلفتي/كل الجهات، الجبهات، مصابة بالذهول؟!/وكل الخناجر والحناجر/ابتلاها الصدى”
القصيدة التي اختزنت كل الأماني والمخاوف والتطلعات وطغيان الهم الأسمى “الارض والتراب”:
“خوف يفتق هم الولاء/تجقر في الأرض..، سماء!/هاهو الدرب.. تلوى من وركيه، يجانب.. جفاف المواسم؟!”.
وبالرغم من أن الوطن يشكل القلق الأول والدائم، لكن للشاعر مخاوفه الخاصة، ريبة وتهيب من زمن لا يؤتمن:
“أعشاب ضفافي خاتلها الصقيع.. وغار/حتى العظم..،/يروج للوهلة أن “شباط” تمهل،/جاء.. على قدم واحدة،/والأخرى تتناهبها الجرذان” ص16
ترتيلة أشعلت المدى أعدها صاحب” شقائق النعمان” و”الوجه الآخر”لاستقبال صحو من يهوذا العصر وسواه؛ يضمن فيه مستقبلاً على مستوى وعي السوري المؤمن بحضارته وأصالته، فيرتحل إلى قصيدة متمردة فاجرة علقت مابين الحاضر والماضي في خطابه إلى خلاسيات من أمة واحدة:
“مربوطاً.. في شفة الكاس المغبش بالأنين..!/يتعتع مخموراً.. حتى الـ../يحتمي ببعض الآيات.. والحكم/والأقوال المأثورة.. والـ../شارقاً باختناق فجوري../قوافي المتنبي والمعري، وديك الجن/السلموني ودلعونا واللالا..!”
الجرح العراقي
عبارات ومصطلحات تشكل على الدوام قاموسه الخاص؛ الذي يفاخر به ويشكل حامل قصائده؛ التي حمل بعضها أكثر من هم وفكرة، بينما اقتصر بعضها الآخر على فكرة محددة كمواويل عراقية وتجليات الهلال الخصيب؛ والمجموعة صدرت والجرح العراقي مفتوح، والتي نقلت لنا قلقه المستديم إنما هنا صوب إلى الهدف بعينه:
“يا يهوذا العصر/ها.. نحن نحصد الخطيئة/بيادراً من العصيان،/وويل للذين تاهو..
بأطراف دشادش أهل الذمة..” ص41
“والعراق يدمدم مقهوراً/ما بين الجراح والفداء!/” دجلة عراها..”الأبرص”/عاجلها بالقصف/شاغلها العصف/وحرَ “بعفتها”/مياه الرافدين/وحكّت “العربان” جبين الترقب والذهول/ونامت وما” فاقت” نواطير مصر/وتململت.. بعباءات الحيف،
مضارب الخليج؟!” ص47
بينما يناشد في” مواويل عراقية” من كانت أولى الحضارات أن:
“قم يا سومر/واشحذ.. ضفاف” فراتك”/وانحر للعز ذبيحتنا”.
ويتابع فيرجو:
“يا حمورابي/ما من أحدٍ.. بعد الصدمة/صاحٍ؟!/حُلّ وثاقي/البعاس وسلمية”
ولأنه خضر عكاري المبحر في تضاريس البلعاس والتي بات يكنى بها، فلا بد من أن يحضر ولو من خلال مفردات تتعلق به فحضر الشيح والقيصوم، وبطمه أيضاً:
حجل/نقر وجه الضباب/”فرفر” بجناحيه/غشّي منقاره، صلى، شغوفاً/بحضن “بطمة”.. مائلة؟!”/مثمر، شجر “الشيح” والقيصوم يداري/رجفة الدرّاب
أو في قصيدة يعترف من خلالها أن البلعاس يشكل ما يشكل من مدى يتيه فيه ويختال:
“بلعاس/مداي/جنونَ/فضاءات مداراتي الشعرية”.
في مجموعته ناجى الشاعر الجميع، فحاور الياسمين بقصيدة واستدعى ديك الجن وغازل العرزال:
“مطعون.. بالغربة مسكون بالدهشة، مجلود حتى آخرة الآهات/مصلوب.. فوق/الخطايا/من منا بلا/من منا.. ولا؟!/عرزال التمنيات تشهى صفصافة السواقي الناشفة؟!”.
ومن يسكنه البلعاس برمزيته لا بد أن تسكنه سلمية مدينة الشاعر ومعشوقته التي يغازلها بقصيدة من بين البعض التي اختار لها أن تكون تقليدية وموزونة:
“سلميتي” من نزيف الجرح قافيتي
أنت القصيد فكوني صحونا الألقا
أنت الوديعة يا عرزال أمتنا
أنت الحياة فكوني العزّ منطلقا
لو خيروني كنوز الأرض أرفضها
مهراً لعينيك حار القلب وارتهقا
رحيل
بالرثاء ختم مجموعته فكانت القصيدة التي رثى فيها رفيق الدرب والنضال “رحيل غيبور”
“بكت السماء وهدنا الترتيل/لما توارى في التراب رحيل/
القصيدة التي تجاوزت غرض الرثاء فحملت، عتباً ولوماً واعتزازاً بانتماء وتصميم على درب برغم طول المسيرة:
ما همهم وضعوا العصي بدربنا
ما همنا؟ درب الصراع طويل
ظن اللئام بفعلهم، وصلوا المنى
فتهالكوا..” إن الكرام قليل”..
“تراتيل للصحو القادم” مجموعة شعرية ليس من السهل خوض غمار قصائدها مفرداتها وأفكارها، تنوعت بين الحديث والأصيل ليثبت قائلها من خلال تميزه سواء بالأسلوب، أو تفرده بعبارات نحت في الكثير منها إلى العامية “تجقر، شلعت، خيّس، وأفلش” مفردات ربما ندر تداولها في حياتنا اليومية الآن، لكنها اقتحمت قصيدته فاستوطنت وتماهت معها فأصابت هدفها، في دليل لنا أنه عندما يصبح الشعر هوس صاحبه والهواء الذي يتنفس من خلاله الحياة، يسهل أن يجيء بالشعر إلى الحداثة و”العصرنة” مجللاً بالأصالة والعز والانتماء.
بشرى الحكيم