ثقافة

“كيث هارينغ”.. عمق التجربة الإبداعية والحياتية

عند الحديث عن جيل الثمانينات الفني في الولايات المتحدة, لابد من التوقف عند معجزة كيث هارينغ الذي تمّكن من أن يكون من بين طليعة الفنانين الأمريكيين خلال فترة الثمانينات بانطلاقته المرحة والمختلفة في ميدان الفن الحالم الحر الذي يقترب أحياناً من الرسومات المتحركة وبإشارات بسيطة يمكن أن تفهم بسرعة مثل: الثعبان رمز الخطر, الرجل الآلي الذي يهدّد إنسانيتنا, أو القلب رمز الحب والحياة.
ولِدً كيث هارينغ, الملقب “الأمير الصغير” في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1958 وكان أول ما جذب الأنظار إليه رسومات الطباشير التي نفذّها في محطات مترو الإنفاق في نيويورك, وقد كانت هذه الأعمال هي الأولى بين ما اشتهر به هارينغ من أعمال فنون شعبية. لقد استطاع هذا الفنان ابتكار أسلوب تتعذر مقارنته ومعالجة مواضيع لم تفقد شيئاً من راهنيتها. وهذا بالتأكيد ما يُفسّر تهافت فنانين بحجم وار هول وباس كيا وراو شنبرغ على تنظيم معارض مشتركة معه.
وتحمل خطوط هارينغ العريضة وألوانه الزاهية وأشكاله النشطة رسائل مفعمة بالحياة والانسجام, لوحته تشمل العالم بأكمله من دون رسوم تحضيرية أو تخطيطات مسبقة, يحشد موتيفات عميقة المعنى ولكنه يحفظها عن ظهر قلب, ابتداءً من موتيف الطفل الذي يحبو على الأرض في الاتجاهين, والكلب الشرس الأحمر المستشري دوماً بالغضب والمتأهب للنباح والعض وغرز المخالب, مروراً بأشخاص متشابكين, مرورا بأشخاص يتدافعون في التزاحم النيويوركي بحثاً عن لقمة العيش الصعبة, يصّور حشود الإشارات التي لا تخلو من تسارع اختصاصه الطباعي والإعلاني الذي درسه في معهد الفنون في نيويورك, ولا تخلو لوحته من عمق التجربة المعيشية ونجاحاته التراكمية الاحتجاجية, ليس فقط بسبب انتشار فئة في كل مكان وبموهبة صريحة, بل وأيضاً بسبب  شخصيته الساحرة وموهبته الاجتماعية ومواقفه الإنسانية والسياسية.
تعكس أعمال هارينغ وأمكنة إنجازها, رغبته في إنتاج فن موجّه للجميع, وليس لبعض الأشخاص, يُشكّل فعلاً سياسياً لتسييره رسائل تنتقد بعنف سياسات بلده, فقد سعى هذا الفنان إلى فضح محاولات السلطات الأمريكية المنهجية حرمان المواطنين الأمريكيين من فرديتهم وصهرهم داخل هوية واحدة، ودفعهم إلى تبني سلوك مقولب. وفي الإطار نفسه, اهتم الفنان في تمثيل تناقضات بلده وحاضره المصبوغين بالعنصرية وفي فضح مساوئ الرأسمالية والمجتمع الاستهلاكي بشكل راديكالي كما في لوحة “الرجل الأبيض العظيم” الضخمة.
وطوال نضاله ضد التمييز العنصري, عبّر هارينغ مراراً في فنّه عن احتقاره “للإنسان الأبيض الخسيس” الذي يعج تاريخه بقصص الاستعمار والاستعباد والقتل. وضمن هذا الموقف تندرج اللوحة التي أنجزها على أثر اغتيال الفنان الأمريكي الأسود ما يكل ستيوارت على يد رجال الشرطة عام 1983, ويظهر فيها هذا الفنان مُهدداً برمز الدولار, تخنقه أياد بيضاء بواسطة حبل وتهرس قدم بيضاء إحدى قدميه, وفي أعلى اللوحة ينسكب فيض من الدم يُغرق المشهد برمته. وعلى رغم يقين الفنان بأهمية وسائل الإعلام وتقنيات الاتصال الجديدة كتقنية الفيديو التي مارسها في بداية مساره, ومدح قدرتها على نشر أفكاره على نطاق واسع, لكنه رأى في هذه الوسائل والتقنيات أدوات خطرة تسمح بالتحكم بإرادة الإنسان وتُهدّد بالتالي نزعته الخلاقة وفرديته, وهذا ما يُفسّر الأداء الذي قام به في “كلوب 57” عام 1980واقتصر على وضع رأسه داخل شاشة تلفاز للإشارة إلى خطر حلول الواقع الافتراضي للتقنيات الجديدة مكان الواقع الحقيقي. أو الأعمال اللاحقة التي حلّ الكمبيوتر فيها مكان رؤوس الوحوش الماثلة في أعمال سابقة. ومن المواضيع الأخرى التي قاربها هارينغ ببصيرة نادرة: عملية تدمير الإنسان لنفسه بواسطة المخدرات, وبيئته الطبيعية بواسطة التلوث وتدمير الغابات, دون نسيان خطر الحرب النووية المحدقة بالبشرية والذي أوحى له بأعمال غزيرة. هارينغ – الذي يعتبر الفن طريقة لتحديد طبيعة الوجود البشري في هذا العالم – يُعترف به اليوم كواحد من أبرز فناني ما يدعى بالتشخيصية المحدثة.
إبراهيم أحمد