ثقافة

يوماً ما كان عندنا سينما وجمهور يعشقها.. سينما العيد المنقرضة مثلاً

يوماً ما كانت دور السينما في سورية واحدة من الوجهات المتعددة التي يقصدها المجتمع السوري بشرائحه العمرية، والاجتماعية، والثقافية المختلفة: “طبيب– مهندس– نجار– معلمة– ربة منزل– مراهق– خمسيني..إلخ”، بغية قضاء وقت ممتع في المناسبات الاجتماعية، الأعياد منها خصوصاً، كعيد الأضحى المبارك، وعيد الفطر، حيث تسنى لي وبشكل جيد أن أعاصر تلك المرحلة التي سبقت بداية تناقص منسوب الإقبال على دور السينما في الأعياد والعطل الرسمية، بداية ومنتصف تسعينيات القرن العشرين، حينها كانت دور السينما الدمشقية في حالة غليان مستمرة، منذ الصباح وحتى ساعات متأخرة من الليل، وفي موسم العطل والأعياد تصبح صالات العرض كخلية نحل، أناس يدخلون، وأناس ينتظرون، وهكذا، طبعاً لا نغفل الحضور الكثيف للأسرة السورية في هذه الاحتفاليات السينمائية المتواصلة.
هكذا كان حال دور السينما في سورية في سالف أيام لم تبق منها إلا الذكرى وحنينها أيضاً، وسيتذكر السوريون بحسرة تلك الذكريات الطيبة عن علاقتهم بالفيلم السينمائي، بعد أن اختفت ظاهرة “فيلم العيد”، وصارت الأفلام تعرض بعرض خاص ولعدد محدد من الناس حتى تناقص بشكل تدريجي عدد رواد السينما!.

العيد والسينما
قدمت دور السينما السورية “القطاع الخاص”، ولحقبة طويلة من تاريخ السينما السورية، الكثير من الأفلام العربية والأجنبية والهندية في دور عرضها، استطاعت من خلالها أن تستقطب جمهوراً عريضاً من عشاق السينما، قبل أن تبدأ بعرض الأفلام السورية التي أنتجها القطاع الخاص أيضاً كأفلام “إغراء ودريد ونهاد” مثلاً، الأفلام التي حظي العديد منها بمشاهدة جماهيرية عالية كفيلم “زوجتي من الهبييز، وخياط السيدات، وغيرهما، ليصبح الفيلم السوري هو ما ينتظره الجمهور من هذه الدور السينمائية التي درجت على جعل أيام عطل الأعياد بمثابة بداية موسمها، حيث تنطلق في هذا اليوم مجموعة من الأفلام الجديدة التي قامت دور العرض والقائمون عليها بالتنافس على شرائها، سواء من جهة إنتاج محلية، أو عربية، أو عالمية، وبدء الإعلان عن إطلاقها خلال عطل الأعياد كدعاية لجذب الجمهور، ولتصبح بمرور الأيام عطلة العيد هي أهم موسم سينمائي في كل من سورية ومصر، البلدين الرائدين في صناعة السينما في الوطن العربي.
نجح الفيلم السوري بالفوز بعاطفة الجمهور وتصفيقه، فها هي أفلام الممثلة السورية الشهيرة “إغراء” تحصد أكبر نسب متابعة من بين بقية الأفلام العربية والأجنبية، وها هم الممثلون السوريون يفتحون فضاء سينماهم المحلية على عوالم أخرى يحبها الجمهور أيضاً، وسنرى العديد من الأفلام السورية والعربية المشتركة التي صورت بين مصر وسورية ولبنان بشكل خاص، تزين مواسم الأعياد في سورية ومصر بتوقيت واحد للعرض، ها هي “الصبوحة” التي يعشق صوتها السوريون، تنتقل من خشبة مسرح معرض دمشق الدولي، لتتقاسم مشاعر رهيفة مع فنان الشعب “رفيق سبيعي”، واعدة إياه أن تعيش معه على “البطاطا والزيتون”، وها هو غوار، الشاب الدمشقي البسيط، يقع بغرام امرأة من “الهبيز”، ليأخذ جمهوره في رحلة ممتعة من الضحك والإثارة بتعدد أنواعها.
إذاً استطاعت الأفلام السورية التي قدمت فرجة سينمائية، ابنة بيئتها، أن تسترد جمهورها من ولعه بالأفلام الأجنبية والهندية، وقدرت أن تعرف ما يرغب به وقدمته له، عبر توليفة بسيطة في القصة السينمائية، ما بين الإثارة والمتعة والضحك، إلا أن هذه التوليفة بنكهتها المحلية الصافية، الناتجة عن مزيج من توابل المجتمع السوري، القرفة الشامية، والحب هال الحمصي، والزعفران الساحلي، والفلفل الحلبي، وغيرها من نكهات سورية المحببة، أخذت بالابتعاد عن جوهرها البسيط، مؤثرة أن تنحو نحو الشخصانية شيئاً فشيئاً في تقديم أفلام هي انعكاس خاص لدواخل صانعيها من كتّاب ومخرجين، ومن كتّاب مخرجين أيضاً قاموا بكتابة أفلامهم بنكهتهم الشخصية، بمعنى آخر بدأت موجة ما يسمى بـ “سينما المؤلف”، هنا بدأت السينما السورية تفارق جمهورها المحلي، ميممة وجهها صوب مهرجانات متواضعة، طامحة إلى جوائز تلك المهرجانات ولو على حساب الانخفاض المتردي لعدد متابعيها، الأمر الذي بدأت تستشعره صالات العرض السينمائية السورية، من غياب حاد للعديد من روادها ومن أهمهم الأسرة السورية التي غابت تماماً عن دور السينما إلا ما ندر.
ولكن ما الذي حدث حتى اختفت هذه الظاهرة الاجتماعية والفنية والفكرية الراقية من المجتمع السوري، وبقيت ظاهرة سينما العيد مستمرة في مصر بشكل منتظم، أقله حتى الآن ولو بوتيرة أخف؟!.
الجواب عن سبب غياب ظاهرة سينما العيد عن دور عرضنا السينمائية، هو شأن متشعب، مدخل الخوض فيه لن يكون من صاحبة الشأن ذاتها، أي السينما، بل من جملة أسباب ساهمت مجتمعة بإبعاد جمهور الفيلم السينمائي عن تلك المتعة الحسية البهيجة، باعتبار أن ظاهرة سينما العيد ليست ظاهرة منقطعة عن الجو السينمائي السائد في البلد.
عندما نتحدث عن حياة سينمائية صحية، فنحن بالواقع نضع نصب أعيننا أربعة مكونات لا تصح السينما إلا بها: فيلم– جمهور– دور عرض- جهة إنتاجية.

الجمهور والسينما
بداية لابد لنا من معرفة من هم رواد السينما على أنواعهم، الأمر الذي سيتيح لنا مناقشة الفيلم السينمائي نفسه، بمعنى أية نوعية أفلام هي التي كانت الأقدر على جعل شباك التذاكر يبتهج بالأرباح التي يحققها من عشاق هذا الفيلم أو ذاك، فالمتفرج السينمائي مختلف عن غيره من النظارة الآخرين، وهو يعلم تماماً، بل ويدرك بأن فيلماً لا تصل أخباره من الناس إليهم، لن يلبي طموحه باعتبار أن مزاج الناس في مجتمعه يعكس مزاجه بالضرورة، وشباك التذاكر هو الأقدر هنا على جعلنا نضبط إيقاع مزاج الجمهور في مشاهدته لما يحب، بمعنى سيكون شباك التذاكر هو من سيحدد أنواع المشاهدين.
تنطبق القاعدة الذهبية التي تقول بأن الجمهور كائن تاريخي وجغرافي أولاً، على كل أنواع الفن الذي يجب أن يراعي هذه القاعدة في تقديمه فرجته البصرية أو الحسية للناس، لذا يجب على أي عمل فني “سينمائي– مسرحي- تلفزيوني” أن يدرك أن عليه تقديم فرجته للفران، وعامل النظافة، والمهندس، والطبيب، والجندي، والمعلمة، والدّهان، والمعمرجي، والعقاري، والتاجر، والطلاب، والعشاق، والمغامرين والمضطهدين.. إلخ، من مكونات المجتمع السوري، فالجمهور يريد، ودون تلبية رغبة هذا الجمهور لن تكون هناك قيمة للفن مهما عظم شأنه.
إذاً قامت السينما بدورها بأن تكون عين المشاهد لسنين طويلة في سورية، أفرحته وأبكته، أخافته وأوقعته بالحب، قبل أن تبدأ أعراض الإصابة  بالعدوى التي كادت تقضي على المسرح، بالظهور على ملامحها.

أفلام لجمهور آخر
لم تغب المؤسسة العامة للسينما السورية عن طرح نفسها كجهة إنتاجية رسمية ووحيدة قادرة على الخوض في غمار السينما، والعمل للارتقاء بالسينما السورية وتطويرها، منذ القرار الرسمي بإحداثها عام 1963، بعد مجموعة من المستجدات التي طرأت على الراهن السوري في القطاع الفني، والسياسي، والاجتماعي، فها هو فيلم “الفهد” الذي أخرجه المخرج السوري “نبيل المالح”، وأنتجته المؤسسة العامة للسينما في عام 1972، يحصد أعلى نسب متابعة في تاريخ السينما السورية، مع فيلم “السيد التقدمي” الذي أنتجته المؤسسة العامة للسينما عام 1974.
وكما أن الدولة السورية تدعم شعبها، فضلاً عن الخبز وبعض المواد التموينية الأساسية، تدعمه في سينماه أيضاً، فهي قامت بإنشاء مؤسسة عامة للسينما، ولم تنتظر أن تربح من الأفلام التي أنتجتها شيئاً، بل هي تخسر حتى اللحظة التي تستعر فيها الحرب بالبلاد، ولم تقم برفع الدعم عن منحتها لأبنائها، وستحمل المؤسسة العامة للسينما عبئاً ليس بالهين أبداً، فهي ستبدأ بالسينما السورية من مكان صعب الانطلاق منه، باعتبار أن الجمهور السوري كان قد ألف الأفلام الجميلة لشارلي شابلن مثلاً، والكثير من الأفلام الرومانسية والعاطفية: “ذهب مع الريح”، وبالتالي لن تكون إثارة دهشته بسينماه المحلية الخجولة أمراً سهلاً، وستعمل المؤسسة على إيفاد عدد من المخرجين السوريين كعبد اللطيف عبد الحميد، ومحمد ملص، وغسان شميط، وأسامة محمد، وغيرهم من المخرجين السوريين الذين برزت أفلام العديد منهم في المهرجانات، وهي ليست معروفة في الشارع الذي من المفترض أنها تتحدث عنه، ماعدا ربما أفلام “عبد اللطيف” التي مررت السم في العسل كما يقال، واعتمد فيها المخرج على اللهجة لتكون حاملة لفيلمه، لا القصة، ولا الشخصية.
هذا الجمهور وجد نفسه أمام أفلام من نوعية أخرى، أفلام نخبوية، كما يصطلح على تسميتها، باعتبارها تركز على التكثيف، والإيغال في الرمزية، تاركة للجمهور أن يتعامل مع ما تقدمه بمنطقه ووعيه الذي يعرفه عن السينما، فهجرها ببساطة.

السينما وحروب الفنون
موجة محمومة أصابت أسطح المنازل منذ بداية تسعينيات القرن الفائت في سورية، حيث ما من بيت، فقير الحال كان أم ميسورها، إلا وصار الجهاز السحري “الرسيفر” رفيق كل أفراد العائلة على اختلاف أذواقهم ورغباتهم في المتابعة والمشاهدة، تجارة الترددات الفضائية التي يلتقطها صحن لاقط ليحولها إلى صور مبهجة بألوانها وتقنياتها الفنية المختلفة عن الشاشة المحلية، ازدهرت سريعاً لدى الكثير من المحال التي غيّرت صنعتها لتواكب التطور التكنولوجي، بدأ عصر الأقمار الاصطناعية، عصر شاشة التلفزيون الذي يبث كل شيء، بدءاً من الآيات القرآنية، وليس انتهاء بأعمال درامية أقل ما توصف به أنها جريئة في طرحها التلفزيوني، فالتلفزيون المتربع اليوم في صدر كل بيت، والقادر على أخذك في جولة عالمية أغرب من الخيال، دون أن تحرك ساكناً عن متكئك، لم يعد حكراً على الراشدين، إنه الجهاز المنزلي الأكثر قرباً من عاطفة العائلة العالمية.
أين اختفى ذاك الشغف إذاً، وما سبب تقهقره؟!.. سؤال أيضاً ستجيبنا عنه فنون بصرية أخرى، وتقنيات فنية متطورة، جعلت السينما في البيت، حملت دور السينما وشاشات عرضها وترقب الناس ولهفتهم إلى المنزل.
ببساطة السينما العالمية الآن صارت  في المنزل، أما سينمانا المحلية فهي ليست بمتناول الجمهور، لا في صالات العرض، ولا على الأقراص المدمجة، ولا على التلفزيون، حيث تكتفي مثلاً مؤسسة السينما، الجهة المنتجة الوحيدة للسينما في سورية، بافتتاح خاص، ليس مفتوحاً للجمهور، بل لجمهور منتقى بعناية بالغة، وفي عرض واحد لأي فيلم من أفلامها.
الجمهور السوري يشتاق للسينما التي يعرفها والتي يحبها، فاصنعوا لهذا الجمهور الذواق ما يحب، ولن تخلو صالات العرض منه، وبالنسبة لمن ربما يتحدث عن أزمة البلاد حالياً وتأثيرها، نقول له: في الثمانينيات أيضاً مرت هذه الكوابيس على السوريين، لكنهم لم يهجروا السينما التي هي فرحهم.

تمام علي بركات