في رحيل عايش طحيمر … اللوحة حاضرة في قميص الشعر
رحل الفنان التشكيلي السوري عايش طحيمر منذ أيام بعد صراع مع المرض، تاركا خلفه سؤالا كبيرا عن جدوى القلق الملازم لحياة الفنان العنيد والمتعدد التجارب، والذي أخذ الترحال نصف حياته أو أكثر خارج الوطن. هذا الرحيل المبكر شكل صدمة لأهله وأصدقائه، فقد ترك ذكريات لا تزال قريبة وسمتها تلك المحبة الفياضة التي تميّز شخصه المؤثر والعاطفي إلى حدود بعيدة.
تعرفت إلى الفنان منذ أكثر من ثلاثين عاما حينما كان طالبا في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق, تميز بنشاطه ودأبه، قلما صادفته إلا ويكون متأبطا لفافات الورق أو الكرتون، يحتار حينها كيف يصافح بيده اليسرى أم بعينيه أم بفمه المشغول بلفافة التبغ أم يرمي ما يحمل ويحتضن ملاقيه. لا يتردد بالحديث مباشرة عن مشاريعه التي تحتاج إلى أكثر من وقت، هذا الدأب صفة تلازمه وتجعل منه الشخصية الفنية التي لا تعرف الاستقرار، فكان مغامرا لا يعبأ إلا بمتعة التجريب والتشوق لعوالم الفنون الجميلة وابتكاراتها، حتى مشاريعها العملية الخاسرة بالمعنى المادي يخوضها بروح متسامحة تقبل الخسارة لأن الحب هو من سيربح في النهاية.
تتعدد المفاصل التي يمكن التوقف عندها في استرجاع سيرة هذا الفنان الجميل والشقي أيضا، فهو من مواليد الجولان المحتل قرية سكوفيا الغافية على آخر التلال والسهول الغنية بروح الجولان المطل على مرآة الفضة “بحيرة طبريا” متوسطة لبدائع كف الإله على الأرض، هناك ولد وهجّر نازحا مع أهله عنها في حزيران 967 لتستقر العائلة في ضواحي دمشق، حيث مرارة الفقر تنهش العائلة الصغيرة وجسد الأب المتعب الذي ناضل من أجل تعليم أبنائه. رغم شظف العيش تمكن الشاب “عايش” من الالتحاق بالصف الخاص ليتخرج منه معلماً في مدرسة ابتدائية ويؤجل رغبته في الالتحاق بكلية الفنون لسنوات، فقد عملا مدرسا في تربية القنيطرة ومن ثم أصبح موجها لمادة الفنون في مديرية التربية، كما مارس الكتابة الصحفية في جريدة الجولان فيما بعد وقد نشر فيها العديد من الكتابات التشكيلية وأجرى حوارات نوعية مع عدد من التشكيليين السوريين.
كما عمل الفنان في اليمن مدرسا للفنون ورساما حين يتاح له الوقت أيضا، كما سافر إلى اليونان وقبرص واستقر هناك لسنوات، وتعتبر هذه الفترة من المحطات التي تميز منتجه الفني من حيث تجدد مواضيعه وتنوعها، وقد أثمرت تلك الفترة عن معرض أقامه في دمشق في صالة “فري هاند” عام2007 وسمي بالفنان المغترب آنذاك، لكن الثوابت الأساسية التي رسمت شخصيته الفنية تعود إلى فترة عمله في التربية ومنظمة طلائع البعث، وقد شارك في الإعداد لمعظم مهرجانات المنظمة التي كانت تقام في المحافظات السورية برفقه بعض الفنانين منهم الراحل غازي الخالدي وعلي الكفري وموفق مخول وغيرهم، تلك الأنشطة الفنية الطلائعية بأجوائها الاجتماعية أَضافت لسلوكه روح التعاون ومشاركة الآخرين حتى أضحت من خصاله التي تذكر، مما جعل منه نموذجا للفنان المحبب عند الآخرين وحسبي أن الجمال يعاش أخلاقا وسلوكا منتجا، وكنا نشاهد اللوحات الجدارية التي ينفذها الأطفال ومنها ما ينفذه المشرفون من الفنانين، وقد كانت متشابهة تقارب الرسوم الإعلانية والتوضيحية، وبالفعل هذه السمة التي تتصف بها أغلب أعمال الفنان طحيمر إضافة إلى محاولاته التقريب بين فن الموتيف والإعلان بذهنية المصور الزيتي وأدواته، ولاحقا اتجه نحو إنتاج لوحة الحامل واهتم بتسويقها وبدأ برسم المعالم السياحية وجوانب الحياة الواقعية وأبواب البيوت والعمائر، وقد لاقت رواجا في المغترب، وللفنان العديد من الأعمال الخطية التي وظف الخط العربي في لوحة التصوير ولغايات ترضي المتلقي، فكان معظمها يندرج تحت خانة فن التكليف وقد كلفته العديد من المؤسسات والجهات الرسمية بتنفيذ بعض اللوحات ورسوم البورتريه ومعالم من الحياة الجولانية وقد نجح في ذلك بشكل مقبول. ولم تنقطع علاقته مع هذه المواضيع بحكم اغترابه عن وطنه فقد ظل الفنان الوفي الذي يشاغله الحنين لبلاده وأهلها، فرسم الأحياء الدمشقية والأماكن الشعبية وبعض المشاهد اليومية من حياة الفقراء والمتعبين ومفردات الهامش الإنساني وأدواته. تعامل مع مواضيعه بروحية العاشق الشاعر الذي تطربه التصورات التي نرميها على الواقعية القاسية ليجعل منها مكانا عاطفيا وزمانا حميما نتوق إلى معايشته أو المصالحة مع وجوده الطارئ.
عرف عنه في التصوير محاولاته في إيجاد سطح مشغول بكثافة من عجينته اللونية وقد اقترب في أعماله من نموذج الروليف في العمل الفني، كل هذه التنقلات في التجربة ومحاولاته محاكاة بعض الأساليب الفنية لم تسقط عنه شاعريته الخاصة وتفانيه في البحث الجاد عن ملامح الشاعر فيه، والشغوف بسلطة الكلام الجميل على الحياة وصولا إلى الصورة المشتهاة، فقد كان عنيدا يفتنه الدرب أكثر من النهاية حتى أنهكه شقاء الحياة الأكثر عنادا وأشد قهرا. هناك تذبل وردة الجمال ويغيب أجمل الأصدقاء في قميص الشعر واللون والذكريات.
أكسم طلاع