في مضامير الشعر.. كبوة الفارس لا تعني نهاية الجولة!..
حين تضيق بك مسام الأرض، وتعيا عن إيجاد موضع تدق به عموداً يحمل كاهل خيمتك السملة التي ملت الترحال، لزام عليك الكفر، اكفر بمن دنسوا وجه الله بأنفاسهم الكريهة، فلله على هذي الأرض موضعان ــــ بوابة النور (القدس) وفيحاء العرين (دمشق) ــ ملك يمين..
الذين سدوا النور عن “بوابة الله” أصابهم غي أنفسهم، ها هم مثل جراد منفلت فقط مفاتيح الجهات، يجتاحون “فيحاءه” لاجتثاث آخر بتلات ياسمينها، أما علموا أن: الشرق كلمة الله/ ولوثة الشيطان/ والشرق خيمة البدوي/ ينهض من سباته/ كي يسن سيفه/ بدم إخوته”؟.
نعم، فقد ضلوا سواء السبيل وما دروا بأن: “الشرق ينام/ على الجراح طويلاً/ ويستيقظ/ في لحظةٍ عصيةٍ/ قيحاً وزنابقْ”.
“قيامة الخيول” فيض من وجع، مداد شابته الحمرة، عفّر وجه الورق بسحنة عتب قميص يوسف للدم الذي غل مسامه، وقّعتهُ عن سابق قصد الشاعرة: عبير عطوة صدر الديوان عن دار “بعل” للطباعة والنشر والتوزيع بدمشق.
حين استباحت “قدسها” ذات مؤامرة، خبأت في تلافيفها ما تيسر من قصص الجدات وبعض ذكرى، خوفاً عليها من الاندثار، ورثت مفتاحاً حديدياً صدئاً لم يزل مشنوقاً في رقبتها أملاً بعودة قريبة طال انتظارها: “خذيني/ سجادة صلاةٍ/ لفجرك المبتدئ بي/ وحين يطلُّ الله/ من شرفته البعيدة/ ارفعيني إليه/ كي مثلما أراه/ أراني”.
ولأن الوطن معشوق لا ينافس، نصبت الشاعرة أضلاعها سياجاً فاصلاً يدرأ عنه النوائب عبر سلطة الحبر الأقوى افتعالاً كون: “الكتابة شيء خطير، أكثر من مجرد كلمات مرصوصة في خط مستقيم ككتيبة عسكرية منضبطة، تخبئ كل هزائمها في صرامتها المبالغة، هي القدرة على كسر عنق الموت والضحك من سطوته وجبروته الزائف ولو للحظة” حسب قول “واسيني الأعرج”.
لم تتوان الشاعرة من مواجهة ذاتها باعتراف صريح لا يحنو إلى التكلف، وهو الواقع الذي أرادت التخفف منه في محاولة لإرضاء أناها بقولها: “عبيد نحنُ/وعبوديتنا ممتدة/مذ جعلنا/خيل الشرق/تهجر أندلسها/وتكبو وحيدة/على الرمال الغربية/عبيدٌ نحن”.
لكنها في الوقت ذاته لم تستكن لبرهة، لتطلق أسئلتها المشحونة بشحذ همم الرجال، وكأنها تستعيد “معتصمها” المنتظر المُخلص: “أليس لغيبوبتك يا شرقُ/من نهايةٍ واضحةٍ/كي تلمس امرأة فيك/حجر النبوءات؟/أليس من رجال؟/تغفو دهراً/على حدود الزوال/أما من رجال؟/أليس من أحدٍ/يضيء هذا الليل بدمه”؟.
إنه الهروب أماماً نحو خطوط النار الأولى، في محاولة لقرع أجراس الخطر المحدق، حين تؤشر بوصلة الشر عيونها نحو “دمشق” ملاذها الأخير: “أرى ممالك أشبه بالحطب/يا فرساناً/من رمالٍ وخشب/يا جنود النفط واللعب/أين الغضب؟/هل ضلت الخيول طريقها/إلى القدس/أم قتلها فيكم التعب؟/أردتموها فلسطين أخرى/لكنها دمشق سيدة/بسيف علي وعمر/تقاتل وهي وحيدة/وأنتم الطلقاء/فردوها بمكركم يا أعراب/لو استطعتم”!.
وهي القارئة المكينة لخارطة الطريق، وما ستؤول إليه الأمور لو انتصرت إرادة الشر مرة، بقيت تهدهدها، تبادلها الحكي، في محاولة لكسر جليد العزلة: “أنت المليكة/وأنت الروح المسكونة بالضوء/وأنت عطر كنسيُّ/يؤذنه هذا الليل/خانتك شمس العروبة/وأنت ربة الأماكن/أدرت الكون بإصبعين/وجعلت/من الهواء الرقيق “أورنينا”.
والعارفة الواثقة بالجدار الصلد الذي أسندت إليه ظهرها دون تكلف، يقيناً بأنها وفي القريب العاجل الضوء: “سنشرب نخبك يا دمشق/على مذبح هذا القلب/ونصلي/كأسٌ لي/وكأس السماء لك يا شهيد/غداً تعرش على أسوار دمشق/خمائل ياسميني/غداً/ سينحني التاريخ صاغراً”.
في فعالية تعبيرية خاصة، تخييلية، ينثني تحت مظلتها الواقع مع الخيال..عبير عطوة تجلي عن صورها غبش الرتابة، ليبدو مشهد نصها البانورامي متماسك البنيان، وذلك عبر ضخه برؤى إبداعية جديدة ذات حضور ذهني مفتعل- مزج الفكرة مع الشعر ـــ تنحو دلالاتها الطافية باختزالاتها المتماهية مع أنا الشاعرة تارة والواقع المعاش المتلقب على قسطاط الحقيقة تارة أخرى، ما بين سلطتي التحاور – أي التحاور مع الثاني كالتناص – من جهة، والتجاور- أي كسر النمط – من جهة أخرى، لتترك لمتلقيها حرية تناول علائق النص من زاوية تخصه وحده، ليكون شريكاً حقيقياً فاعلاً في عملية فك شيفراته المثقلة التضادات والمتجانسة مع آخر، في هيكلية بنائية أنيقة، دعمتها الشاعرة ببلاغة وصفية لافتة، عبر توظيفها لتقانات الشعر العظيم مثل، الجناس/ الطباق/ الاستعارة.
النمسا ــــ طلال مرتضى