ثقافة

الإلقاء روح النصّ

غسان كامل ونوس

في الأدب وسواه، ثمّة نصوص تكتب، بمناسبات، ومواقف، وحالات تتعدّد، وتختلف باختلاف الأسباب والدوافع؛ الذاتيّ الشخصيّ منها؛ انفعالاً وإحساساً بضرورة التعبير، والتفريغ؛أو مسؤوليّة ومهمّة وحبّاً في المشاركة.
ومن النصوص المكتوبة ما يخصّص للقراءة في حضور آخرين؛ ومنها ما لا تكون قراءته على الملأ أساساً في كتابته.
وتختلف القراءات في أوانها وغاياتها؛ فهناك قراءة ذاتيّة عابرة للاطّلاع، أو معمقّة للفهم والتمثّل؛صامتة أو مصوِّتة؛ وقراءات أمام آخرين؛ مواجهةً من على منبر، أو من دونه؛ مباشرة أو على البعد، مشاهَدة، أو مسموعة.
والقراءة الجهريّة مهمّة، لإيصال النصّ إلى الناس، الذين حضروا، أو جلسوا أمام شاشات العرض، أو أصاخوا السمع إلى ما يقال. ومن القراءات ما تتمثّل معاني النصّ، وتتشبّع بروحه، إذا ما كان فيه روح؛ فيرتسم تأثّراً، وتنتثر حيويّة، وتشعّ حرارة؛ وأخرى تترك مسافة بين المكتوب والمنطوق؛ فيسري الشرود، أو يفحّ الملل، أو يتناتأ النفور!.
ومن النصوص من تُظهر جماليَّته القراءة، أو تزيد فيها تلويناً وتوقيعاً ووقفات؛ كما أنّ هناك نصوصاً تشوّهها قراءتها، وإن جاءت من لدن كاتبها؛ فلا بدّ للقارئ من التعبير عمّا يقرأ، حماسة أو بوحاً أو سرداً هادئاً، أو حواراً، أو شكاية وتأسّياً.
ومن المؤدّين من يبالغ في نبرته، وفي ملامحه، وحركاته، بما لا ينسجم مع محتوى ما يقرأ؛ليلفت انتباه المتلقّين أكثر، فينفّرهم أكثر.
وهناك أجناس أدبيّة،تتميّز بأنّ للإلقاء دوراً أكثر أهمّيّة من سواها. فالشعر مثلاً، تساعد مقاطعه البيّنة، إذا ما كان على نظام العمود أو التفعيلة، بقافية أو من دونها،في إظهار الأداء الموقّع؛والأمر يختلف أيضاً بين شعرٍ خطابيّ مدّاحِ أو هجّاء، أو شعرٍ لوّام، أو رثاء، أو شعرِ غرام وانسجام؛ لكنّ هناك من يخلط بين هذا وذاك، فيتحمّس ويرغي ويزبد، حتّى في الشكاية والبوح والنجوى!
وفي الشعر ذي الإيقاع الداخليّ، الذي لا يكتب على الطريقة الخليليّة أو المفعّلة، شحنات ونبرات، تعطي النصّ حيويّته، وتقرّبه إلى أسماع المتلقّين، الذين لا ينتظرون الوصول إلى القافية،أو يستبِقونها، ليستقرّوا، ولايترقبّون أسماء وألقاباً، حتّى يصفّقوا!.
وتصحّ هذه المقاربة، بنسب متفاوتة،في الحديث عن النصوص النثريّة القصصيّة، أو سواها؛ هي التي تحتاج إلى أن يتعامل معها القارئ بتمثّل واستغراق في الحال والتفاصيل، والمفردات والوقفات والصياغات التي تجعل النصّ قريباً وأليفاً، إذا ما كان مضمونه أو هدفه، أو سياقه يساعد في ذلك!.
ولا بأس من التعريج على لون آخر، يعتمد في انتشاره وتعميمه على الأداء الصوتيّ المباشر، وهو ما يُعرف بالشعر المحكيّ أو الزجل؛ فهنا أيضاً، تظهر المشكلة مضخّمة؛ حين ينبري إلى “سوق” القوّالة من هبّ ودبّ؛ فيغرفون من العامّيّة ما يعتقدون بجاذبيّته، ويلوّحون من مفرداتها بما يحسبون أنه مثير وممتع. وتكتمل فصول الصفع العمْد للنصّ والمتلقّي بالإلقاء، الذي يتوسّل المبالغة في التحريك والمطّ والقسر أحياناً، والتلوين الذي يُبدّد الفكرة، إذا ما كانت موجودة، والمعنى إذا ما كان حاضراً.. والأنكى أنّه يضيّع المتعة والفائدة، اللتين تشكّلان جوهر المادّة الثقافيّة ذات المقبوليّة والجاذبيّة والجدوى.
وممّا يسيء إلى النصّ أيضاً، القراءة غير القويمة؛ تلك التي لا تحترم الحركات الضروريّة والصحيحة؛ ومنها ما يكاد يكون بديهيّاً، ولا يُغني تسكين الحروف، أو تحريك الأطراف، وتنقيل العينين بين الورقة والآخرين، ولا نفخ الأوداج أو الترخيم المنعِس، في التخفيف من أثر الأخطاء المنهِكة على التلقّي والمتابعة والمردوديّة؛ ولا معنى ولا قيمة لِما يروّجه بعض الذين لا يعرفون القواعد، ولا يُحسنون القراءة، من محاولة التبخيس من اللغة وضرورتها، وينتقدون الاهتمام بها، بادّعاء أنّ الأهمّ هو المضمون؛ لكنّ هذا المضمون، لا يبقى في قلب الشاعر؛ بل يخرج إلينا في حروف وكلمات وجمل، لها مخارج ولفظ وأصداء، وحركات مبنيّة أو معربة، لا يجوز إهمالها، وإن كان وراء ذلك، حنق من حال قوميّة، وقلق من ابتراد وإهمال، أو استياء من موقف سياسيّ، قد يبلغ حدّ الإجرام، يقترفه بعض العرب؛ عدواناً وظلماً بحقّ الشعب السوريّ!.