أرصـفـة الـغـربـة.. وراء “البحر المتوسط” يقول الشعراء ما لا يفعلون
على بُعد قمرين وكسرة قصيدة, كانت حمى الندم تلتهم الشاعر الذي فاته موعد القطاف بقليل.. رأيته يتهجأ ما تيسر له من صور القصائد عن ظهر قلب..
الشاعر الذي فاته موعد القطاف بقليل, للتو, أنا, ليس كل ما يبرق رعداً, فالقصائد التي ارتكبتها في سابق ديوان, حامل، والنقاد المتمرسون رهط عنيد المناكفة, يقولون ما لا يقرؤون, تركوا مفاتيح تأويلاتهم جانباً, ولحقوا شبهة القول كي يشيعوا الفضيحة..
لست أدري كيف سقطت مني سهواً, صورة حبيبتي في البحر الطويل, كان المراد أن أترك باب القفلة مفتوحاً, “يحق للشعراء ما لا يحق لغيرهم”, لكن الأفكار تجري عكس ما يريد أن يغني المغني..
تماماً وقبل بلوغ اللازمة سلّم العزف, تعثر الوزن في مفتاح “فا”, ليخرج عابر كلام فاتحاً أبواب الشعر على مصاريعها, شرّع لعابري القصائد جوازات كسر الرتم لضرورة النثر الجديد..
قال: القصائد العبثية أكثر حضوراً في مراسم عزاء الشعر المقفى على حد علمي.
ثم أردف: من الآن كلكم شاعر وكلكم مسؤول عما وصلت إليه القصيدة.
كان يمسك زمام الفكرة بحبل من ذهب, تمنبر مسترسلاً صادحاً من دون تكلف: الذين ركبوا عتلة بحور الشعر لا يخشون لومة ناقد..
يا معشر الشعراء: إن الذي بينكم وبينه توارد أفكار, ليس من العدل أن تسفحوا قصائده وتقولوا: ضل القصيدة..
أنا رب الشعر العظيم, اليوم أتممت لكم دواوينكم, فاحفظوا بينكم مكارم الحبر وأصيل الكلام.
شاع ملء أذني تصفيق حميم, تذكرت “القدعجع” في رواية “كامل صالح” وهو يتلو قصيدته العصماء التي اجترع من خلالها إلوهيته, أنا رب الشعر العظيم.
عند مفترق البوح وأنا أعبر الهامش المنفي من دفتر الحساب, كان مليك الشعر, شيطانه, يحرّض الأفكار عن سابق قصد, سمعته دون وسيط, يهمس ملء فمه متخففاً من إثمه قائلاً: لقد طفح الكيل, علينا أن نفتح بحور الشعر على بعضها البعض لتعويم القصائد المنافية للحشمة.
لعل ما تناهى إلى مسمعي من خطاب “حق يراد منه منصب في الاتحاد, ليعاود شحن الهمم من جديد: الحرية تبدأ حين نسقط بجدارة أنظمة النقد الرثة.
– هيه.. هيه.. ماذا تهذي أيها المعتوه, من يسقط من؟!!..
كان من الأجدر أن تسمموا “أبا القاسم الدؤلي” بملايين الأفكار قبل اجتراعه للوزن.
احتج شاعر من خارج النص, كان يعيش ثمالة فكرة تبخرت طي حكاية إسقاط الأنظمة..
في طريق هجرتي نحو القارة العجوز, وأنا أتسلل من وراء حراس المدن الفاضلة, عابراً حدود الممنوع في الوصف, داهم لساني عطش لكتابة نص نثري, كانت ذاكرة هاتفي متخمة بأرقام مهربي العبرّ, وفي لفتة بريئة نحو الوراء, غصصت ببحور الشعر التي علقت في سقف حنجرتي, كدت أموت غرقاً من العطش..
يفتقر الحقيقة المطلقة من ادعى أن الرواة قوامون على الشعراء, ذات مهاتفة ساءلني “تيم” ابن صديقتي ذو السنوات الست: “أيمتا راجع يا عمو”؟.
قلت: حين تعود لي خيمة الشعر التي اغتصبها الأشرار, كنت أنام في ظل أفيائها دون هم يكدر الخاطر يا “تيم”.
رد بعفوية: “أي رجاع هلق.. تعا نام بغرفة حمودة أخي”.
لفترة ليست بالقصيرة وسلّم العزف يلازمني أردده ثم أعيد: دو.. ري.. مي..
سأعود يا “تيم”.. سأعود..
نادى منادٍ أعرفه تماما كما أعرفني, رأيته ذات مرة ينسحب من مؤتمر الشعر عن سابق إصرار: يا معشر ال… صمت لبرهة واسترسل: هاتوا جوازات سفركم الزرقاء, فهي لا تجدي نفعاً هنا..
استل من حقيبته آخر دواوينه المطبوعة, فتح بيت النصف منها, قطع ورقتين, صنع مركباً ورقياً دون مجاديف, طبع على عنوان القصيدة الظاهرة على آخره قبلة حانية, تمتم كلمات لم أفهمها, ثم دفع بها عباب ماء البحر المتوسط, من ضفة “كويوس” اليونانية وهو يجهر بالبكاء: فلتسقط القصائد التي لم تهدَ لها, يا مركب “سلمي لي ع سورية”.
النمسا ـــ طلال مرتضى