ثقافة

“المسرح”.. الحاضر الغائب في سنوات الحربقراءات آنية وسطحية.. وطروحات جدية عن معنى الوطن

لأن ما يحدث في سورية أمر جلل وخطير، كان من الصعب أن تمر الأحداث فيها على المسرحيين مرور الكرام على الرغم من قناعة الجميع بصعوبة تناولها من خلال المسرح كما في كل الفنون عموماً خاصة وأنها لا زالت مستمرة، إلا أن  العديد منهم رفضوا الانتظار وأصروا “شرف المحاولة” التي استقبلت من قبل الجمهور والنقاد بردود فعل مختلفة مع إدراك الجميع بأن الزمن وحده كفيل بغربلة ما قُدِم حيث لن يبقى في الذاكرة إلا الأعمال الحقيقية.

انعكاسات الحرب
انطلاقاً من إيمان أصحابها بأن الفنان جزء لا يتجزأ من نسيج الشعب ولا يمكن له أن يظل محايداً هامشياً بل يجب أن يرتفع صوته معبراً عن موقفه ومكنوناته الداخلية ووجعه، قُدِّم برأي الفنان محمود خليلي العديد من العروض المسرحية في السنوات الخمس، فمن الأحلام المتضاربة والمنكسرة في مسرحية “هدنة” لمخرجها مأمون الخطيب وكاتبها عدنان الأزروني والتي تتحدث عن معاناة الشباب في سورية والذي عصفت أهوال الحرب بمستقبلهم، إلى هول الحرب وسطوتها وفضح الفساد المتمترس في كل ثنايا حياتنا في “مدينة في ثلاثة فصول” لعروة العربي والتي اقتبسها كفاح الحلاج، ومونودراما “تغريدة أبو السلام” تأليف وإخراج داود أبو شقرة و”قهوة مرة” لحازم حداد، وعروض أخرى لا يدّعي أنه شاهدها جميعها، مبيناً خليلي أن الرؤى والمضامين تنوعت في هذه العروض، وإن تفاوتت في مستوياتها الإبداعية إلاّ أن معظمها انتصر للأفكار والمواضيع المطروحة، ووصل بعضها حد المباشرة التي فرضتها حرارة الحدث وقسوته، معترفاً إنه وإن كان يميل للوضوح الذي يبني جسراً بين المبدع والمتلقي إلا أنه يفضّل في الإبداع عدم الوقوع في الخطاب السياسي المباشر، حيث المبدع برأيه غير ملزم في نتاجه الإبداعي بتوصيفات دقيقة تحدد أطراف الصراع في هذه الحرب المجنونة، والأهم الوقوف عند انعكاساتها حيث في الذاكرة المتجددة الآلاف من القصص المريرة لأناس فقدوا أعز ذويهم ومنازلهم وكل ما ملكوه من شقاء السنين، وآلاف التائهين في قوارب الموت وفي البحار الهائجة، ليترك للمتلقي حريته في التقاط المعنى والتأويل الذي يريد، لأن المبدع كما يؤمن خليلي معني بالموازنة بين الفكرة والخلق الإبداعي، وليس في صالح المسرح كفنٍّ تغليب المضامين على الرؤى والمعالجات الجمالية التي تحقق المتعة للمتلقي، وهو معني بذلك حتى في أشد وأقصى أشكال التعبير عن الهول والألم، ليقود متلقيه إلى مواجهة هذا الواقع.

ضعف ثقافة الأزمة
ولأن الأعمال المسرحية الجيدة التي تناولت الأزمة اختلفت في طريقة الطرح كان المخرج مأمون خطيب مع الأعمال الجادة التي تناولت الأزمة بالشكل الإنساني، من خلال تناول أثرها على الناس والخسارات الكبرى الإنسانية والروحية الناجمة عنها، مبيناً أن بعض الأعمال اتجه إلى المباشرة في الطرح، وبعضها كان على الحياد، في حين استثمرت بعض الأعمال وجود الأزمة لتقدم طرحاً آنياً وغير مفيد في استخلاص نتائج أثر الحرب على سورية، معترفاً أن بعض الأعمال عكس ضعف ثقافة الأزمة، وشكلّت أزمة ثقافية من نوع آخر. وبالعموم يجد خطيب أن كثيراً من السلبيات التي عانت منها بعض العروض أتت من بعض القراءات السطحية للوضع السياسي أو الثقافي، أما الإيجابيات فكانت في بعض الطروحات الجدية عن أهمية معنى الوطن ونقل الحدث بشكل مسرحي، وهذا يساهم في التوعية بشكل عام كون الأزمة شكّلت وعياً من نوع آخر لدى الجمهور وأصبح بحاجة ليرى نفسه على الخشبة كانعكاس للحدث الآني، وعبر خطيب عن اعتقاده أن الشكل الأمثل لتناول الأزمة يكمن في جذب المعنيين لجميع العاملين في فن المسرح، وتوضيح أهمية هذا الفن في المساهمة في التوعية الجمعية لمعنى الأزمة الكبيرة التي وقعنا فيها من خلال تشجيع الفنانين من مختلف الاختصاصات للعودة إلى المسرح، خاصة وأن المواضيع التي يمكن أن تُطرَح كثيرة وعميقة بعمق هذه الكارثة، موضحاً أن الأزمة  تخلق الأفكار العميقة والمؤلمة التي تساهم في تطور الفن بشكل عام كون كل ما يح≠دث مؤلم وصادق وحقيقي، والمسرح بذلك ناقل نوعي للوعي ومشارك في تكريس المعرفة، وهذا لا يتم بالشكل الأمثل إلا من خلال إيجاد الظرف الأمثل للعمل ووضع إستراتيجية صحيحة وضرورة الابتعاد عن الشعارات والقوالب الجاهزة، والانتقال إلى المساهمة في نشر الوعي المعرفي بين المشاهدين.
ويختم خطيب مؤكداً على أن مهمة المسرح هي المساهمة في إعادة إعمار الروح الإنسانية بالتوازي مع إعادة إعمار الحجر، والإضاءة على أثر الجهل والتخلف وقلّة الوعي في تراجع المجتمع انطلاقاً من قناعته بأنه في الأزمات تنقلب الفنون الإبداعية جميعها إلى هيئات موازية لوزارات الدفاع والبرلمانات لما لها من أثر فوري على المتلقي.

أزمة المسرح السوري
وما بين موضوع المسرح السوري والأزمة وأزمة المسرح السوري يبيّن الناقد سامر محمد إسماعيل أن المسرح السوري تُرِك في العراء بعد قرار الحكومة الأخير بتخفيض أجور العاملين فيه ثلاثين بالمئة، وكأن المسرحيين السوريين كانت أجورهم جيدة حتى يتم خفض الأجور “أصلاً لم يتبق أجور بعد هذا القرار” وهذا يعني بالنسبة لإسماعيل أمرين: إما أن هذا القرار هو إعدام للمسرح السوري.
ويرى إسماعيل أن العديد من المسرحيين السوريين لم يقفوا مكتوفي الأيدي في هذه الحرب على سورية؛ وحاول العشاق الحقيقيون في سنوات البرد وانعدام الكهرباء والأجور المعدومة بإصرار على الوقوف على الخشبة، وقد ساندهم الجمهور ووقف معهم وجاء تحت القذائف لحضور عروضهم، وإن كان بعض العروض لم يرق إلى المستوى المأمول من جهة الاشتغال على النص أو ابتكار حلول صارت ممجوجة من قبل جمهور المسرح القومي، لكن في الوقت ذاته يُحسَب للمسرح القومي في سورية بصفته مسرحاً وطنياً أنه صمد وكان هامش الرقابة –كما هو معروف في المسرح- معقولاً لجهة الطرح، فالمسرح السوري طوال سنوات لم يكن إلا خط دفاع أول عن قيم المدنية، ولذلك لا يستحق هذه المعاملة من قبل الحكومة، ومن الجيد أن تنظر الحكومة كما يشير إسماعيل بعين العطف إلى أهل المسرح في سورية، ولا تعامله معاملة زوجة الأب؛ حيث لا تستحق النخبة المسرحية هذه المعاملة، وهي النخبة التي تكاد تكون الوحيدة التي تحملت مسؤوليتها الأخلاقية إزاء جمهورها، مؤكداً وعبر متابعته لمعظم العروض التي قدمت من آذار 2011 أن فرسان الخشبة ظلوا واقفين على أقدامهم وأجروا تدريباتهم وقدموا عروضهم في أصعب الظروف، لا من أجل مال ولا من أجل استعراض فارغ.. وعلى مستوى آخر يأسف إسماعيل لأن ثمة نجوم مسرح تخلوا عن دورهم واختاروا موقف (النأي بالنفس) متسائلاً أين فايز قزق وأسعد فضة وجهاد سعد وعبد المنعم عمايري وغسان مسعود؟ أين هؤلاء من المسرح اليوم؟ “لقد قدم الفنان أيمن زيدان مسرحيته دائرة الطباشير في سنوات الحرب، ونأى آخرون، لماذا؟ إذا كانت الأجور هي السبب فآخرون قدموا مسرحاً وقدموا موقفهم مما يجري من قتل ودمار وخراب وعبث؟ في حين ارتجل البعض عرضاً في أسبوع لمهرجان الفجيرة للمونودراما؟! والبعض غاص في مسلسلات (الحارة) والآخر في مسلسلات (صرخة جسم) والبقية اختفوا حين طلبتهم البلاد”،  ويوضح إسماعيل أن كلامه هذا ليس تشكيكاً في وطنية أحد.. وبالمقابل ليس كل من عمل في المسرح  برأيه بريء من تهمة السماجة والتكرار التاريخي الرديء لمسرحيات ذات نبرة خشبية وبائتة وكأنها تجري في زمن ومكان آخرين، كما لم تكن بعض العروض التي قُدِّمت بريئة من جهات وصناديق دعم عربية وأوربية مشبوهة.

الجمهور هو المفاجأة
ماذا عليّ أن أفعل في هذه اللحظة؟ وأية موضوعات جديرة بالتركيز عليها؟ وكيف يمكن لهذه الموضوعات أن تكون مؤثرة وفي صالح الإنسان الذي هو غاية الحياة؟  هذه الأسئلة برأي الإعلامي منصور ديب تقفز أمام كل مبدع حقيقي، من هنا وفي المسرح كان سؤال كافة المسرحيين السوريين حول نفس النقطة يثير الكثير من الجدل، ويُحسَب للمسرحي السوري كما يشير ديب عدم وقوفه على الحياد الفني ومشاركة كل واحد منهم حسب قدرته واجتهاده في الفعاليات المسرحية المختلفة، بالرغم من الظرف الصعب الذي يعيشه المسرح ليكون الجمهور هو المفاجأة الجميلة بحضوره المكثف في الكثير من العروض المسرحية التي عُرِضَت على مدار السنوات السابقة من عمر الأزمة، ويلحظ ديب أن مسرحيتين مثل “هوب هوب” و”دائرة الطباشير” حازتا على استحواذ خاص من الجمهور الذي وجد فيهما بعضاً مما يحتاجه من المسرح في هذه المرحلة، بينما مرر المسرحيون في مسرحية “مدينة في ثلاثة فصول” أكثر فصول حياتنا إيلاماً بأسلوب صادم يجعلنا أمام مسرح هو امتداد لأقرب شارع يعيش أقسى ما يحدث في هذه الأزمة،  موضحاً أن أكثرية العاملين في المسرح يحبون أن يقدموا شهادتهم بما يجري، انطلاقاً من إحساسهم بأن دورهم في هذه اللحظة بالرغم من التكلفة العالية التي يمكن أن يدفعوها مقابل هذه الشهادة، لكن بنفس الوقت يبيّن أن البعض وجد فرصة كي يتكئوا على الأزمة ليقدموا أنفسهم، فصعد بعض أرباع الموهوبين خشبة المسرح ليقولوا حواراً ساذجاً في أغلبه، معتقدين أنهم على قدم المساواة مع مسرحيين شغوفين بالحب لهذه الخشبة، فبدا هذا المسرح هزيلاً، يُنسى بعد أول أيام العرض بالرغم من الضجيج الإعلامي الذي يرافقه والابتزاز بالشعارات في فرض رؤيته، بينما يبدو المسرح في مكان آخر حيث القداسة فقط هي للحوار، وهذا ما حاول المسرح السوري في هذه الأزمة تقديمه من خلال التأكيد على استمرارية العروض بأقسى الظروف وأن يظل مسرح الأطفال والمحافظات مشغولاً ومضاء سواء بالعروض أو التحضيرات لعروض أخرى.

أمينة عباس