ثقافة

في العامّيّة.. أيضاً!

غسان كامل ونوس

…كنّا نلوم بعض قنوات التلفزة العربيّة غير السوريّة، التي تتّخذ من العامّيّة أسلوباً للتواصل مع المشاهدين، حتّى في تقاريرها الإخباريّة. وما زلت أعتقد أنّ ذلك ليس كرمى لفهم المشاهدين وفائدتهم وكسب رضاهم؛ بل للاستهانة بـ “الفصيحة” والإساءة إليها، والخروج على آداب اللغة والرسالة التي تحملها، والمحيط الذي تمثّله.
وما زلت أعتقد أنّ اللغة الفصيحة قادرة على إيصال الفكرة إلى جميع الشرائح، ويمكن فهمها من قِبَلِ غالبيّتهم، من دون داعٍ لشرط عدم التقعّر فيها؛ لأنّه ليس مطلوباً أصلاً، وقليلون من يتّبعونه، إن لم نقل: يتقنونه.
وأقول: كنّا- وما زلنا- نعتزّ بالتزامنا العربيّ، وبحرصنا على التواصل المُجدي مع الملايين العربيّة، ومنهم من ما يزال ينظر إلينا بعين الأخوّة والودّ، ويتمنّى لنا الخير والتقدّم والسلام، وليسوا قلّة.
لكنّ منحىً سلبيّاً، أخذ يظهر عندنا، في أكثر من ميدان؛ ويمكن أن نقرأ ذلك صراحة في بعض مواقع التواصل الاجتماعيّ، وبعض المنابر الأخرى؛ فيما يمكن أن نلحظ ظلاله وأصداءه في مواقع أخرى عديدة؛ يتمثّل بالتقليل من شأن العربيّة الفصيحة، والعروبة من ورائها، ويحرص على الاهتمام بـ “السورنة”؛ وهو أمر خطير، ومنعكساته ضارّة لأسباب عديدة، لسنا في معرض التخويض فيها الآن.
ومن المؤكّد أنّ مثل هذا الأمر، ليس له طابع رسميّ، ولا تتبنّاه السياسة الرسميّة للدولة، وليست في وارده، ولا الغالبيّة الشعبيّة؛ على الرغم من الآلام التي سبّبها بعض العرب لسوريّة والسوريّين؛ كما سبّبها بعض السوريّين لأبناء جلدتهم أيضاً. لكنّنا نشهد أحياناً، ما يصبّ في المجرى ذاته؛ ويتمثّل بالمبالغة في التعامل مع العامّيّة، ومايشبه التخلّي عن العربيّة الفصيحة في برامج كثيرة؛ مع أنّ هناك محاولات ودعوات على الصعيد الرسميّ للاهتمام بها، و”تمكينها”، وشُكّلت لجان، ما تزال تجتمع لهذه الغاية، في كلّ محافظة، وإن كان يديرها، في بعض الحالات، مسؤولون- بحكم وظيفتهم- ويشاركون فيها أيضاً، وهم لا يتقنون حتّى التحدّث بها، إلى درجة فاضحة.
لكنّ هذه اللجان “الفصيحة”، ليست ذات حضور مقنع،ونتائجها لا ترفع من شأنها، وإجراءاتها لا تحكي عنها، ولا مبادراتها وإنجازاتها، إن وجدت، ولا تُغطّى إعلاميّاً، وهي تكاد تشبه كثيراً من الأعمال التي تُرسَم، وتنجَز، من باب ردّ التهمة، وإسكات المغرضين، أو رفع الشعارات، وليس الترميم المُجدي والبناء الحقيقيّ.
وستستغرب، من دون شكّ، إذا ما قيّضت لك متابعة كثير من البرامج المباشرة، الموجّهة إلى الناس، ولاسيّما في الفترة الصباحيّة، وتنزعج، وأنت تسمع أحاديث ممجوجة، وحوارات ركيكة، بعامّيّة فاقدة للحرارة والإحساس، بمبالغات في ما هو غير مفيد، أو انتقاصات من أفكار ومعان وإنجازات.
وإذا ما أردت إقناع طفلك بأهمّيّة اللغة العربيّة الفصيحة، وإتقانها لفظاً وكتابة، وشرحت له- على سبيل المثال-وجوب حذف ياء الاسم المنقوص النكرة في حالتي الرفع والجرّ، وإذا ما توقّف البحث في الشاشة، على قناة (تلاقي) سيقول لك: ولماذا لم تحذف الياء في هذا العنوان المشهود يا “أبتاه!”؟! فبماذا تجيب؟! هل هو خطأ مقصود؟! أم سلوك مشهود، يندرج في برامج هذه القناة وإداراتها؟! أم خطّ معهود من القول بالشيء وممارسة نقيضه؟!.
لسنا هواة التمظهر باللغة، والتباهي بإتقانها، ولكنّ اللغة هذه جزء من الشخصيّة شئنا أم أبَينا، ولا يتعلّق الأمر بالمشهد المتناسق المنسجم،الذي لا يضرّ بالعين؛بل يرضيها ويريحها؛ على أهمّيته؛ وإنّما يعكس قدراً كبيراً من فحواها وإمكانيّاتها؛ فقد “تنكسر شوكة” المتكلّم الباذخ المشهديّة، إذا ما تكسّرت لغته، وتباعدت حركات كلماته عن أصولها.. وقد تتباعد المعاني أيضاً، ولا سيّما إذا ما كان مسؤولاً صاحبَ أوامر يجب أن تطاع، أو في مواقع لها علاقة بالثقافة وفروعها، والتربية وشعبها،والسياسة ومواقفها وخطبها.
ألا يحسّ بالخجل أو الانكسار من يتلعثم أو يتشرذم، أو يتحدّث باللغة العربيّة،كأنّه أجنبي، والقوم الحاضرون والسامعون من أهل لغته، يعلمون ذلك، ويلاحظون ارتباكه وأخطاءه، حتّى إن حاول إصلاحها،أو لأنّه يحاول ذلك، ولا يشفع له عندها موقعه، ولا سلطته، أو ألقابه، حتّى العلميّة منها.
ولا يستطيع- لأنّه يعلم ربّما- أن يستشهد بعنوان المحطّة المستحدثة (تلاقي)، أو بالكثير من محتواها، وزميلاتها؛ لحسن الحظّ، أو لسوئه!.