د. عمر موسى باشا أستاذ الأجيال.. مسيرة عطاء وتجربة حياة
الأمم بتاريخها ورجالها، والحضارات بعلمائها وأدبائها، وكل أمة تعلي شأن العلم والعلماء هي أمة متحضرة، لأن هؤلاء العلماء يمثلون ضمير الأمة وذاكرة أبنائها، ولعل من أبرز هؤلاء العلماء د.عمر موسى باشا الذي فقدته الثقافة العربية ورحل إلى عالم البقاء بعد مسيرة من العطاء قضاها في الدراسة والبحث، إذ يعتبر من سابقي عصره في الكشف عن التراث الأدبي الضخم في العصور الأيوبية والمملوكية، الذي كان بمعظمه مخطوطاً بعد ولم يكن قد تناوله الدارسون قبله بشكل جدّي، فأبرز شعراءه وأجلى الغبار عن كنوز ثمينة ورفع الظلم عن حقبة كاملة من تاريخ الأدب العربي وخرّج جيلاً كاملاً من الأساتذة الأدباء حملوا المشعل معه في سبيل إكمال الشخصية الأدبية العربية التي ننتمي إليها.
تعرفت إلى الدكتور عمر موسى باشا في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، أستاذاً جامعياً شديد البأس، حيث كان يتعامل معنا كطلاب مسؤوليتنا بأن ندرس وننجح، فكنا نتهيب حضوره ومحاضراته، واستمر انطباعي هذا عنه إلى أن التقيته مرة في مكتب مدير عام المؤسسة التي أعمل بها، ودار حينها حديث عن الثقافة وأهمية القراءة، وتوقفت في حديثه عند حسرة بثها شكوى مؤلمة حيث قال لنا: منذ أن وعيت الحياة وعرفت أهمية الكتاب وأنا أسعى لتأسيس مكتبة جيدة يستفاد منها أبنائي بعد وفاتي، لكن للأسف الآن أولادي كبروا وكل واحد اختار طريق مغاير لما كنت أتمنى، وليس لدى أي أحد منهم اهتمام بالمكتبة، فحسرتي أن هذه المكتبة ستضيع بعد رحيلي”.
الحقيقة هذا الكلام بقدر ما أسعدني أني سمعته من شخص علاّمة كالدكتور عمر حيث رأيت فيه الجانب الإنساني الذي كان خافياً علينا في الجامعة، بالمقابل حزنت أن هذا الرجل الذي تعب في انتقاء الكتب التي تخدم أبناءه وجيلهم في المستقبل تذهب جهوده في مهب الريح، والآن برحيل د. عمر ماهو مصير مكتبته التي كان يتحسر عليها، ولمن تركها.
ينتمي الدكتور عمر موسى باشا للجيل الذي نشأ فترة الاحتلال الفرنسي لسورية، وكثيرا ما تحدث عن هذه الفترة ووعيه الذي أخذ يتنامى عبر تنقله بين الأدباء والمفكرين ومختلف التيارات المذهبية والأدبية، وقد عاش الراحل حياته مخلصاً لمبادئه لا يحيد عنها، وكانت الصخرة التي أرسى عليها بنيانه الثقافي والفكري، يستوحيها ويستمد منها في كل الميادين، وهي التي أخصبت حياته، وتركت نوافذه مفتوحة لتهل عليها كل الرياح دون خشية منها، بعد أن عرف شخصيته وتميز بهويته ولسانه، وآمن بأمته، فكان الوفي لتراث أمته وما سار عليه الأسلاف حين رددوا: “الحكمة ضالة المؤمن إن وجدها أخذها”.
اللغة العربية متجددة
كرس د. موسى باشا جهده للبحث في علوم اللغة العربية، وكان يرد على الاتهامات الموجهة إليها بأنها قاصرة عن استيعاب الكم الكبير للمصطلحات العلمية المتجددة والمتطورة بتطور العلم، بضرورة أن يكون هناك حوار خصب بين العقول العربية يؤدي إلى نتيجة منطقية، وتعريب المصطلحات كخطوة أولى للنهضة، فاللغة العربية قادرة على استيعاب كل المصطلحات العلمية بيسر وسهولة، فإذا وجد للمصطلح تعريب يكتب، وإذا لم يوجد استعمل في شكل مناسب كما أن تقدم العلوم لايمنع أبدا متابعتها باللغة العربية، وقد قدم للأجيال ذخيرة لغوية قيمة، وكان الراحل يكتب من صميم فكره وأعماق قلبه، تستمد ريشته من مداد دمه وعصارة أعصابه، فكتب عن الفكر المتحرك المتفتح الهادف إلى معالجة قضايا حية متجددة تهب على اللغة والأدب ويعاني منها الوطن والأمة.
لقد اهتم في أبحاثه أن تكون اللغة العربية مواكبة للعصر وأن تستطيع التعبير عن كل المعاني والأفكار والمصطلحات الجديدة بلغة عربية، لأنه حسب رؤيته لا يمكن أن ينبت العلم في الأرض العربية إلا إذا تحدثنا باللغة العربية، وكانت أمنيته أن يشهد اليوم الذي تصبح فيه اللغة العربية هي اللغة الأولى في كل جوانب حياتنا، ويتحدث بها الناس الحديث اليسير، وأن يصبح التعليم في المدارس فصيحاً وأن يتحدث الأساتذة باللغة الفصحى ليعتاد الطلاب سماع هذه اللغة، لأن اللغة يأتي تعلمها بالسماع والممارسة، وليس بتعليم القواعد التي يقتصر دورها على ضبط ما تعلمه الإنسان بالسماع.
كان ينظر للصحافة نظرة إيجابية جداً فيراها همزة الوصل الباقية عبر الزمن بين الأدب والصحافة، مبيناً أنه ليس للأدب وجود إن لم ترسخ دعائمه، وتنشر أعلامه، وتحتضن إبداعه دولة الصحافة -وحسب قوله- أنه كان يعني هذه الكلمة بالذات لأنها اللسان الناطق المعبر عن مجالات الحياة سياسياً واجتماعياً وفكرياً، فهي لسان الحياة الحقيقية، وليس الأدب في حقيقته إلا هذه الحياة نفسها، وهكذا تغدو الصحافة الزهرة الفواحة، التي تنشر من عبير عرقها شذا الأدب الحق الخالد في كل زمان ومكان.
وبعد هذه المسيرة الطويلة هاهو أحد أهم رموز الثقافة العربية يخلي منبر الثقافة والفكر، ويودع رفاق الدرب، بعد أن أمضى مسيرة حياته بالبذل والعطاء التي ستبقى ذخرا ومنهلا تنهل منه الأجيال القادمة.
ولد الراحل في مدينة حماة عام 1925، تخرج في جامعة دمشق حاملاً الإجازة في اللغة العربية عام 1953 ثم نال دبلوم التربية من المعهد العالي للمعلمين في العام نفسه، ودبلوماً في المخطوطات من باريس عام 1972 والماجستير من جامعة القاهرة عام 1961 والدكتوراه من الجامعة نفسها عام 1964، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق ورئيساً للقسم نفسه، ومستشاراً في الاتحاد العالمي للمؤلفين باللغة العربية بباريس، وفي جمعية نشر اللغة العربية في كراتشي، ومقرر جمعية البحوث والدراسات، وعضو اتحاد الكتاب العرب، ونقابة المعلمين، كما حضر مؤتمرات وملتقيات عدة في العالم.
سلوى عباس