موحيات المكان والزمان والعاطفة في “احتفاء بصباحات شاغرة”
الشعر هو صرخة الألم والغضب والعاطفة والهدوء والسكون، وهو جامع المكان والزمان، ولقرون عديدة خدم الشعر الحركات والمجتمعات باعتباره أكثر العناصر الاستفزازية لتحريك الشعور والثورة على المألوف، هو محور ثقافتنا وأنه قادر أن يكون من أقوى الفنون، فجميع هذه الموحيات وتعبيرها يمكن أن تلخص بما يطلق عليه التجريبية الشعرية التي يمكن أن نبدأ الحديث عنها ونحن نتناول المجموعة الشعرية الخامسة للشاعر العراقي طلال الغّوار “احتفاء بصباحات شاغرة” الصادرة عن دار بعل في دمشق عام 2014 بطبعة أنيقة وبلوحة رائعة وجميلة زين غلافها الفنان السوري رائد خليل.
هنا نتوقف للتعريف بأحد العناصر الرئيسية الداخلة في التجريبية الشعرية هي الحداثة حيث ينتقل هذا المفهوم في مسيرته إلى رفض الأشكال القديمة للشعر عموما، فالشعر يجب أن يمثل نفسه أو يمثل طبيعة وتقلبات الشاعر كما هو متعارف عليه، وحينما نمر على النظريات الأدبية ومنها البنيوية فإنها تأتي في الكثير من التشابه المشترك لها في الاشتغال واللغة، ولم تتم بأي واسطة أخرى غيرها، ولكنها تشكلت بالكامل من تلك الإجراءات، فنحن لا ننظر إلى العالم من خلال قصيدة واحدة، ونسأل بعد ذلك كيف كان هذا التمثيل للشعر صحيحا أو كافيا أو مناسبا؟ لكن التركيز على الأجهزة المكملة لها والاستراتيجيات داخل النص نفسه هو الذي يمنح تلك التجريبية التي نقصدها، وهي نفسها التي سوف تؤسس لتقييم الوحدة الجمالية للقصيدة، وهذه الوحدة يبدأها الشاعر من المكان الذي نجده كثيرا في نصوص مجموعته هذه بدءا ببغداد التي يقول فيها:
“أما آن لي أن أراني/ كشرفة نائية/ فأطل على شجر/يمشي إليكِ/ ويسترد بين يدك
ثياب الصباح”.
إلى أن يقول:
جسرك الممتد من قلبي/إلى رصافة أحلامك/يستعيد عشاقه/ في عيون المها/ أما آن لي/أن ارفع قبعتي/ لزهرة تسير وحدها في الطريق”
هذا المكان يمكن أن يتحول إلى أمل منشود كما في “شوق” حيث يقول:
“كلما جئت قريتي/اقتادتني خطاي إلى طفل/ما زال ينتظرني/خلف شجرة/ منذ خمسين عاما/لكني لا أراه”.
الغوّار يجول في المكان في عديد قصائده منها “تحد” أو “طفولة” أو “صباح بعيد” التي يهديها إلى صديقه القاص فرج ياسين نقرأ منها:
أتذكر/منذ صباح/نبتت بين أصابعنا الكلمات/ونحن نخضب أرواحنا بالحلم وبنداء/الأقاصي/فيومئ إلينا النهر/كانت تحتفي بنا خطواتنا/فنغذ كلماتنا في صباح طويل”.
بغداد ليست المدينة الوحيدة التي تعلق بها قلب شاعرنا فراح يغازلها تارة ويبكي عليها تارة أخرى، فقد سبقه شعراء كثر أحبوا مدنهم ومدناً أخرى زاروها وافتتنوا بجمالها وخلدوها في قصائد قد تقترب من الملاحم، يذكرني بذاك الحب والهيام والألم الشاعرة النمساوية إنجيبورج باخمان التي كتبت قصيدة عن مدينة باريس التي زارتها قبل الحرب العالمية الثانية وشاهدت كيف تعرضت للدمار خلالها، هذه القصيدة أضحت من أشهر القصائد المنقولة إلى اللغة الإنكليزية بعد نهاية الحرب، ومع أننا نجد في أعمالها الشعرية تقاربا كبيرا مع أعمال ريلكه إلا أنها كانت تجرب أشكالا جديدة في كتابتها مستخدمة في شعرها القافية إلى جانب الإيقاع الفني الحر، ونجد عندها حبا للموسيقى والتجريب اللغوي، حفزني أن أذكر ذلك ما وجدته في قصيدة الشاعر الغوّار عن بغداد وكيف يتبارى الشعراء في حب مثل هذه الأماكن، أو في قصيدة “دمشق” أو “خيبة” أو “شارع المتنبي” التي نقرأ منها:
“في شارع المتنبي/رأيت دخان الشعر/يتصاعد كثيفا/لكن أين النار”.
المكان يمكن أن يكون لدى الشاعر أثر مندرس أو بعيد جدا عن واقعنا، لكنه يحمل رائحة الحاضر كما في قصيدته “المنتحلون” والتي يوظف من خلالها الميثولوجيا العراقية الغائرة في القدم بأسماء أبطالها نبو بلا ناصر، جلجامش، أو المصرية المتمثلة بفرعون، هؤلاء جميعا اعتبرهم من سرق جهد الرعية وتعبها وهي صرخة بوجه العبودية والظلم كما يقول فيها: لم يكن فرعون هو الذي حمل أحجار الأهرامات ولا نبوخد نصر جاء بأشجار الأرز ليبني برج بابل، ولا جلجامش شمر عن ساعده ليرصف الأحجار في أسوار أوروك، إنهم ليسوا إلا سرّاق لمآثر الآخرين الذين حملوا برؤوسهم الشموس.
هذه الأمكنة لا تخلو من ساكنيها لدى الشاعر فهو في عديد قصائد مجموعته الشعرية هذه يرسم سيناريو لهم حيث تتحرك شخوصها من خلاله ليكون للمكان تأثيره العاطفي والنفسي في آن واحد، وهو ما يفسر حاجته أن لا يكون وحيدا في هذا العالم كما في قصائد “طفل أنا” أو “الشهيد” أو “حلم” التي نقرأ منها:
“أتذكرين/في السابعة من أحلامي/كنت أتأبط نجومك/وأمضي بعيدا/وأنا أشير إلى أنهار/لم أزل أبحث عن ضفاف لها/في رأسي”.
أو في “أيها الحب” أو “أنت المضيء” أو “حرائق” أو “تساؤل” التي تحيلنا إلى ما بدأنا كلامنا حول موضوعة التجريبية الشعرية، التي وجد فيها مساحة رحبة لكتابة قصيدة حديثة شاملة بتعبير الدكتور الباحث المغربي محمد برغوت، المليئة بأسرار الكشف والاكتشاف، والتي يتدرج مرجعها الاصطلاحي من ت . س إليوت إلى السرياليين والواقعيين والرمزيين، مكنّت الشاعر الغوّار من تأسيس لغته الشعرية من خلالها أو كما يقول:
“أي الجهات إليك توصلني/قد ضاع من بين الخطى دربي وضيعني/من أول الخطوات/من أول الكلمات/لا فرق بينهما/تمشينني في يقظتي حلما/وفي وسني/فرأيتني وحدي ألوح للغياب”.
بهذه اللغة وهذه التجريبية استطاع الانفتاح على النص وأن يخلق لنا حالة جميلة وهي الانتقال من النص الطويل إلى الومضة الشعرية القصيرة، دون أي اختلال قد يصيب المعنى كما في قصيدة “تشرقين في قصائدي” ومنها:
“كلما تهجيت حبك/زهرة زهرة/وقلت إني وصلت إليك/اتسعت أمامي حقول المعاني/وغاب الطريق”.
وهناك في هذه المجموعة الشعرية ثمة قصائد مكانية يهتز لها الوجدان تضج بالمفردات العذبة والمعاني السامية مثل “: دمشق” التي نقرأ منها:
“دمشق أفق حانٍ بالهوى/واخضرار السنين/دمشق التي/علمتنا إلى قاسيون الحنين/دمشق تفتح في كل يوم/صباحاتها شهقة الياسمين”.
ومن جميل ما وجدته في هذه المجموعة الشعرية قصيدتان حملتا عنواناً واحداً هو “حب”، لكنهما تختلفان في المعنى لم أجد مثلهما في أي ديوان شعري آخر وهي صناعة يحتفظ بها الشاعر كإحدى مبتكراته هنا يقول في الأولى:
“أكسر عروة ذهولك/وأدخل بهاءك المترامي/فأرى حدائقك/تتفتح بين أصابعي/فيما شراهتي/تنضج في ثمر يتدلى/يهتف بي/خذني/حان وقت قطافي”.
أما القصيدة الثانية التي نختتم بها قراءتنا لمجموعته الشعرية “احتفاء بصباحات شاغرة”، يقول فيها:
“أحزم طرقاتي/وأتعقبك حتى أعالي أحزانك/وليس لي/غير وجع القصائد/دليلي إليك”.
أحمد فاضل