خصوصيات إبداعية
أحمد علي هلال
لا يمكن الحديث عن خصوصيات بعينها، إن لم تنتسب إلى قارة من خصوصيات الإبداع، كما هو شأن الحديث عن الخصوصيات الإبداعية في الرواية أو الشعر أو المسرح أو الدراما وسوى ذلك.
فكيف تنشأ هذه الخصوصية إن لم تكن جزءاً من نسيج عام، هو الذاكرة الجمعية، وعليه فإن الحديث عن فرادة المبدعين هي رهن بما ينجزون في سياق تكامل ذواتهم الإبداعية، ليس بموضوعها فحسب وتشبعها به، بل مع مجتمعهم استشرافاً لغير أفق تنهض معه حالة إبداعية وأكثر، وتُثري أشكالاً من الممارسة الإبداعية تحرر أفعال التراكم لتصبح قيمة لذاتها، ويجوز هنا مساءلة ما يُنتج على كثافته حيناً أو قلته أحياناً أخرى، ما هي القيمة المضافة لذلك النتاج، إن خاتل مجرد الذهاب إلى أفعال التوثيق، أو شغف التدوين تحت هاجس الوقت والتقاط اللحظة، وذهب -بحكم- إلى تشكيل ذاكرة ثقافية جديدة، مضادة للمحو والإلغاء على مستوى حضور الإنسان وشرطه، ومستوى حضور القضايا الكبرى التي تجعل من الأدب أدباً ذو قيمة في راهننا الإبداعي، وما يستدعي الكلام هنا هو مساءلة صادقة لكثير من الأجناس الإبداعية المُنتَجة زمن الحرب ليس تقليلاً من أهميتها في شرطها التاريخي الذي تُكتب به، ولكن من أجل قراءتها بعيداً عن الصدمة والانفعال وفيض العاطفة وحدها، كما هو الحال في قصائد بعينها ظلت أسيرة نبل الموضوع، لا التفاتاً إلى التقنيات المصاحبة، وبمعنى آخر التفاتاً إلى ما يجعل منها معادلاً إبداعياً للأزمة ووجوهها وحفرياتها في النفوس قبل الأرض، وإذا كان بالبداهة القول أن ذلك التراكم سوف يسفر عن نوع ثري، فإنه من الجدير القول أيضاً أن غياب الرؤية لا يبرر لذلك التراكم كما غياب المعادل كمعيار ضروري.
فالأسئلة الضرورية يستوجبها ذلك الإنتاج الغزير، وهذا شيء إيجابي لكنه سيكتمل حينما نُرسي على أرض الأفعال ما نصطلح عليه بـ “الشبيه المختلف” والاختلاف قدر الإمكان عن الواقع لا انعكاسه مباشرة وتلقائياً، بحيث يصبح الواقع ذاته هو المدونة الكبرى التي لا يجاريها أيما إبداع. وهذا ما يصدق أيضاً على الخطاب الدرامي باقتصاده وكثافته بآن معاً، حينما نقرأ في الأعمال الدرامية المُنتجة أكثر من لغة وغير تشكيل بصدد معرفتنا بالواقع، وكيف يصبح الواقع واقعاً جديداً “رؤيوياً” لا انعكاسياً محضاً، على الرغم من جدارة أعمال بعينها من أن تكون في أفق الأسئلة المطروحة على مستوى خطاب الواقع وخطاب الفن، وعلى مستوى آخر كيف تصبح المقولات بطبيعتها الفنية حافزاً لدى -المتلقي- ليكون أكثر قدرة على التأويل والتغيير.
لطالما كانت ثقافة الصورة في راهننا الدرامي هي السائدة على الأقل، لكن ثقافة الصورة وبهذا التركيب ثقافة وصورة، تعني مساءلتها في ضوء الواقع والمتغير والمحلوم به في مرايا الوجدان الجمعي لا الفردي فقط، هو إذن أكثر من أفق انتظار لما يكسر أفق التوقع ويستدعي ثقافة شاملة تنهض بالواقع مؤسسة على الكثير من الوعي، وبالاستلهام كي لا تكون بعض الأطباق الدرامية تخمة فحسب، وخروجاً عما نعرفه، وفي المقلب الآخر إن الكثير من الأنواع الأدبية المنتجة مازالت تجهر بشرف التقاط اللحظة، وعلى أهمية ذلك كيف سيكون هذا الالتقاط، دون أن نذهب إلى استقبال مجاني لا يؤسس في الحالة الثقافية، ويتشظى محكوماً بنَفَسْ السوق ومتعالياته، بوصف خطابه خطاباً مضاداً ومفارقاً لثوابت يسوقها “الفن” اختراقاً أو تماثلاً!.
أجل، ثمة خصوصيات إبداعية في الأغلب الأعم، لن تكون بمعزل عن قراءتها كظاهرة تستحق السجال، قراءة فاحصة لأجل إنتاج المعنى، والمعنى هو ثابت رغم متغيرات عاصفة، لأجل الانفتاح على فضاءات تنويرية متجددة في حالتنا الثقافية الكثيفة التراكم، وقوفاً عند دلالات الفرادة في مشهدنا الثقافي السوري.