“ألف نون”.. مشروع تشكيلي أوسع من صالة عرض
تراجع دور العديد من أصحاب الصالات الخاصة، ووقع بعضهم في شبه الغياب عن حياة دمشق الثقافية والتشكيلية، فقد أغلقت العديد من الصالات الخاصة بسبب الحرب التي انعكست آثارها على مجمل الحياة الثقافية والاقتصادية، وأدت إلى ضعف القوة الشرائية، وتراجع الإقبال على اقتناء اللوحة وهجرة بعض الفنانين والمقتنين والمهتمين بالفن التشكيلي، وغياب الثقة عند البعض بجدوى الفنون ودورها في زمن الحرب، إضافة لفقدان العديد من الفنانين لمراسمهم ومحترفاتهم التي تنتشر حول المدينة، مما دفع بالبعض إلى الهجرة، أو البحث عن مكان بديل، بالمقابل نجد أن بعض الذين يملكون نزعة الإصرار والثقة بالجمال، وفي دور الفنون في الحياة، دفع بهؤلاء إلى سلوك مختلف، طليعي وإبداعي وطني، مقتنعين بدورهم الفني الذي جاء من صلب الهوية السورية الشغوفة بالأمل، والمنتصرة على آلام الحرب والإرهاب, ومثال ذلك الفنان التشكيلي بديع جحجاح الذي أقام خلال فترة الحرب مجموعة من المعارض والأنشطة التي تهدف إلى ترميم ما أصاب الروح وما تصدع منها، متسلحاً بقيم ثقافية وإنسانية تنبذ الحرب وتدعو للمحبة والسلم، وتعزيز روح الجمال الإنساني على هذا الكوكب.
“ألف نون”
بداية هذه الأنشطة كانت في معرض أقيم في دار الأوبرا بعنوان “أفلا” المستوحى من نصوص دينية وأدبيات الصوفية, والثيمة الجوهرة هي الدرويش بحركته الدورانية، طالباً بيده اليمنى نعمة الخالق واليسرى على قلبه في إشارة متضرعة للباري بأن يحمي البلاد.
ألحقت هذه التجربة مؤخراً بخطوة أوسع، هي افتتاح صالة ألف نون للفنون الجميلة والروحانيات. وللتعريف بفكرة ألف نون التي يخاطب فيها الفنان عقل المتلقي وروحه، باعتبار أن الإنسان مفردة كونية يختصر فيها العالم، وما الجمال إلا السلوك والأثر الذي يعيش طويلاً، يحمل صفات كينونة الخير والمحبة، وقد عرّف الفنان جحجاح بخطوة ألف نون الفنية إذ قال: “في هذا التوقيت والزمان الصعب الذي يمر على الإنسان الذي يبحث عن ملجأ تحلق فيه روحه، وتنمو بذور المحبة من جديد، وجدت الفن هو اللغة التي توّحد البشر وتمّد الجسور بينهم بعيداً عن لغة العنف والتدمير، فالفن ميدان المحبة، وتعبير عن التسامح والإحسان والعبور بحرية.”
افتتحت هذه الصالة بأعمال النحات فؤاد أبو عساف والتشكيلية سراب الصفدي، التي قدمت مجموعة من الأعمال التي تناولت فيها المرأة والأمومة والهجرة، بينما منحوتات الفنان أبو عساف البازلتية تدور حول مواضيع ذات دلالة ورمزية في الموروث الشرقي، محمّلة برجاء وتمنيات الحاضر، وقد حاول الفنان بناء توليفة من أكثر من خامة، مثل الخشب والحجر، لكن جدوى هذه المزاوجة لا يمكن الحكم عليها إلا من خلال القيمة التعبيرية التي يقدمها العمل، والمدى الذي وصلت إليه حدوده التقنية التي تجعل منه عملاً وافر الجمال والقيمة.
المعرض الثاني كان للفنانين المصور إسماعيل نصرة والخزاف وائل الدهان، هذا الفنان المتكمن من أدواته، فهو الخزاف المحترف والفنان الذي يعرف تفاصيل الألوان الناتجة عن معادلات الأكاسيد والنار والطين، أكثر من قطعة لهذا الفنان لها من القيمة الكبيرة للخزف السوري الذي بدأ يشهد تراجعاً كبيراً، وقد قدمه الفنان جحجاح في بروشور ألف نون قائلاً: “الفنان النحات يحيلنا في تجربته الغنية والعتيقة من خلال طينه المحترق وكيميائه الفريدة، إلى سبر عوالم الميثولوجيا واستخلاص رموز خاصة وملونة وبراقة، تمنحها إنسانيته نفحات ممتلئة بالغنى الروحي، إنه الخزف والبرونز والهياكل التي عبرها تتوضح هوية هذا النحات المفعم بالحياة والطاقة، وهو الذي يتغنى بحب دمشق المتشحة بالزرقة والسماء ليتجلى فيها الله”.
وللفنان إسماعيل نصرة وافر الحظ في هذا المعرض، أكثر من 20 لوحة زيتية حتى يخال للبعض أن المعرض للفنان نصرة الذي لا تخلو لوحة من بورتريه لامرأة في حالة من الوجد والحلم، وهذه حال أعمال هذا الفنان المجد الذي قدم له الفنان جحجاح بكلمة جاء فيها: “المرأة في أعمال إسماعيل نصرة صاحبة حضور لافت وكأنها ضالته التي لا يجدها أبداً، إنها تلازمه في تعدد المواضيع والأفكار التي يتناولها خلال تجربته اللافتة بعفويتها ونعومتها وأنثويتها، متتبعاً تعابير الوجه والعيون والضوء المنسكب في الطبيعة الساحرة، يصوغ عبر تباينات اللون والضوء شعراً وأنسنة جعلت منه الكاتب بريشته الممتلئة بالجمال.
أكسم طلاع