ثقافة

العلامة محمود فاخوري.. الحراثة في الأرض البور”

 

كان مكتبة متنقلة” هي العبارة التي يرددها كل من عَرفَه؛ طلاباً كانوا أم أقراناً وزملاء له في مجال التدريس والبحث العلمي، العالم محمود فاخوري ابن مدينة حماة الذي انتقل منها إلى حلب ليكون أحد مؤسسي كلية الآداب في جامعتها العريقة، وليصبح علماً من أعلامها.
قيل فيه الكثير إلا أن الجميع أقر بأنه” مربي الأجيال وشيخ اللغة العربية في سورية” لا بل إنه يُعد من أبرز علماء اللغة العربية في القرن العشرين.
حين سُئل عن الكتابة وما تعنيه بالنسبة له؟ قال: الكتابة في نظري ليست رسالة إنسانية فحسب؛ إنما هي رسالة اجتماعية ثقافية وفكرية، وطنية وقومية وكل ذلك يندمج في بعض ليكون للحياة معنى يؤدي المثقف فيها دوره على الوجه الأكمل”. تلك كانت رسالة فاخوري الذي رحل بالأمس القريب، الرسالة التي عمل من أجلها وفي سبيلها دوماً.
العربية كانت عشقه الذي أخلص له؛ يقول في رسالة إلى أولئك الذين يصرّون على اللّجوء إلى غير العربية في كتابة أسمائهم: “حبّذا لو استبدلتم بها الحروف العربية الجميلة والواضحة، بدلاً من بذل الجهد في تمييز الغين من الجيم، والهمزة من العين، والكاف من القاف وغير ذلك” متأسفاً على ما يظهرونه من تجاهلٍ للغتهم الأصيلة، ومن انقياد معيب للغرب يودي بهم إلى فقدان هويتهم بالتدريج.
هذا بالطبع لم يعنِ مطلقاً رفضه للحداثة فالمنطق كان سيد الأحكام لديه؛ إذ عُرف عنه العمل بحيث يحقق معادلة “التراث والأصالة المعاصرة” في آنٍ معاً؛ وكما كان شديد الحرص على التراث عاملاً على إحيائه، كان يعمل بشكل مخلص على مدّ جسور التواصل مع الأجيال الجديدة، وبما يتماشى مع معارفهم ومفاهيم عصرهم، يتذوق القصيدة النثرية كما قصيدة التفعيلة، لا يقف ضد الكتاب الالكتروني بالمطلق بالرغم من تفضيله الورقي منه، ذلك لإيمان لديه أن لكل منهما دوره، يعمل الاثنان كل حسب إمكاناته والحاجة إليه.
والأمر ذاته ينسحب برأيه على العديد من المسائل المتعلقة بالإعلام والشللية السياسية والثقافية وسواها من المسائل العامة.
وقد رأى أن الصراع بين القديم والحديث مسألة ليست وليدة عصرنا، إنما هي مسالة قديمة متجددة، إذ أن الأمر موجود في كل ساح، يجب أن يواجه بالإقرار بوجوده، والاعتراف به، والاستعداد له بدل الوقوف والأيدي مكتوفة، والإيمان أن الأمة التي لا ماضٍ لها يرتكز إليه حاضرها ومستقبلها في البناء، لابد هي أمة فاقدة الشخصية، سوف يأتي يوم تفقد فيه هويتها أيضاً، إذ تنصهر في سواها من الأمم والحضارات فاقدة مقومات وجودها في المستقبل.
فاخوري الذي عُرف عنه التعمق في دراسة علوم وتاريخ قدماء العرب من أبو محجن الثقفي إلى المطرزي وابن الجوزي، لطالما أوضح أن هذا الاهتمام إنما هو للكشف عن شخصيات ومبدعين غفل عنهم التاريخ؛ يزيل الغطاء عنهم فيكون لدى الباحثين والدارسين مصدراً ومرجعاً يمكنهم العودة إليه أو بمعنى آخر وكما يحب دوماً أن يقول عن نفسه:” إنني أحب دوماً الحراثة في الأرض البور” لكن؛ بالرغم من ذلك فهو لم يقف يوماً في وجه الحداثة التي يرى أن عليها أن تمتاز بالتعقل والرصانة، تحترم التراث بعيداً عن تقديسها بشكل صرف.
وفاخوري كباحث ودارس؛ أقر دوماً أن الثقافة العربية الراهنة تعاني من بعض الثّغرات؛ منها فقدان العمق وعدم الشمول، والاقتصار على جوانب وموضوعات محدودة أو محلية، وعدم الاهتمام بالآداب الغربية ومذاهبها ومدارسها النقدية إذ قال: “صحيح أن هناك كتباً تترجم وتنشر ولكنها لا تكفي، ثم إن الترجمة نفسها لا ترقى إلى المستوى المطلوب ثانياً، إذ أن كثيراً من المثقفين لا يحسنون اللغة الأجنبية التي يترجمون عنها، أو اللغة العربية التي يترجمون إليها” حيث لا توجد ثقافة معزولة عن سائر الثقافات الأخرى، وما دامت وسائل الاتصال قائمة الحديثة منها والقديمة، فلا بد أن يكون التأثير والتأثر بين تلك الأمم متيناً وقوياً، فالثقافات منذ القديم كانت متبادلة ومتداولة بين الأمم عن طريق الترجمة والتأليف والتنقلات التي يقوم بها عادة العلماء والدارسين الباحثين عن المعرفة، وكما أخذ العرب والمسلمون عن ثقافات الهنود والسريان والفرس فهم أعطوهم أيضاً.
عكف ابن حماه على دراساته بعيداً عن الرواية والقصة التي اعترف أنه لم يجد فيها ما يحقق طموحه، أو يشبع رغبته في البحث والدراسة التي اتجه إليها منذ الصغر، حيث حرص على اغتنام كل وقته في خدمة التراث واللغة المقدسة وعلومها المختلفة؛ دراسة وتأليفاً وتحقيقاً.
يذكر أن نشاط الفاخوري الفكري والأدبي شمل إلى جانب البحث والتدريس إلقاء المحاضرات في المنتديات الأدبية والثقافية، ونشر المقالات في الصحف والمجلات العربية، إلى ذلك شارك في العديد من المؤتمرات والندوات العربية والدولية، فنال التكريم في العديد منها، له ثلاثون كتاباً توزعت مابين التأليف والتحقيق منها في التأليف: سفينة الشعراء، موسيقى الشعر العربي، مصادر التراث والبحث ومحاضرات في الأدب العثماني. أما المحققة فمنها: نهر الذهب في تاريخ حلب للغزي، سيرة ابن سينا و نسيم الصبا لابن حبيب الحلبي.
يبقى أنّ: الحديث عن علاّمة بمستوى محمود فاخوري إنما هو حديث عن قلعة من قلاع اللغة العربية لا يمكن أن توفى حقها في هذه السطور، لكنها كانت وستبقى بما تركت من إرث كبير للأجيال القادمة وللمهتمين باللغة الأصيلة والتراث والأصالة.
بشرى الحكيم