ثقافة

جورية السرور واللياقة الشعرية عبر رسائل حب دمشقية

حين ينكسر الشاعر ضمن المعنى فإنه يترك خلفه الكثير من الرسائل والأصوات السكرى، لأن القصيدة الضاجة بالحياة لا تستسيغ المنفى كثيرا.
ورغم ذاكرة العشق والحرب،الداء والدواء فيها، فهي لا تقبل فكرة الهزيمة إلّا بوصفها جزءاً من سياق طهراني، يتسق وفكرة الخلود التي طالما يبحث عنها الشعراء، وحين يكون المحارب شاعرة وأستاذة بالقانون بامتياز “جورية سرور”، فإن الرسائل تبدو أكثر احتجاجاً، والأصوات أكثر تمرداً على كل العادات.

الشاعرة السورية خطّتْ  “رسائل حب دمشقية ” بطريقة صوفية، وقدمت لها بومضة عرفانية “أيها الحب..لكل الناس أنت دواءٌ/إلا لي داء يلهب الداء/ دالة على توقدها بالحياة وتطلعها إلى كسر الحدود. فهي ترى أن الشعر مجاهل وأنها مولَعة باقتحامها وهز أغصانها اللدنة لتمنحها وهج  العطر والسحر/الحب والحياة.
رسائلها لا عناوين لها، متمرّدة، غامرة الاستفزاز والرغبات، والإحساس بالجموح، غيرتها عمياء، نارٌ تحرق ألف مجرّة، إذ تضع فعل الكتابة وكأنه التماهي مع مزاجها الأنثوي، أو حتى قاموسها الخاص- السردي أحيانا- الذي تمارس من خلاله حضورها. فمنذ (الرسالة  الأولى حتى رسالتها الأخيرة) وهي تندفع إلى أقصى اللغة، تشاطرها لعبة البوح والصخب،وتراقصها في بحر ذاكرتها دون شراع وتتمرد من خلالها على سياقات (اللياقة الشعرية) التي ظلت إلى حدٍ ما قرينة بالشعرية النزارية.
لكن، الشاعرة  الدمشقية كسرت وهم هذه اللياقة، وجاءت رسائلها من بيروت على طريقة الدونكيشوت تصطنع لها طواحين هواء، وسيوفاً من خشب، ونساء تدغدغ عودة الحياة..”لا أجد لهذا الحب رصيفاً أو نهايات/تبدع لي وجهاً يبتسم من قلب الضيم/أصابعك تنحت في مومياء بالميرا/وتدغدغ عودة الحياة” .ص-28
دار “ضفاف” كسرت الكثير من أوهام ذاكرتها الفينيقية، ووضعتها في سياق قلق، سياق لايطمئن فيه إلّا عبر اللغة، بوصفه نوعا من الوجود الهيدغري، أو بوصفه مجالا تعويضيا، يمكن أن يساعدها على أنسنة التمرد، والمرور إلى (البرجوازية) البيروتية، ومشاطرة فرسانها البيروتيين لذة الرؤية في رحلة صيد شعرية ترمي السهام ولا تأبه كيف تكون النهايات: “وتهزني ألف حسرة/كنت أعلم أنك ستنام تحت الزيزفون/وأنك جئتني زائراً رحلة/في رمشك ألف ملاح كان يسعى/وطوقٌ/كان حول عنقي يتدلى/تتشبث به/كجرس يوقظك حين أتسلل/ مازال بين أصابعك أحلى/خذه تحت التراب/لتبقى بين أحضاني كما تتمنى” ص-52
وتتسلل إلى الأمكنة التي تألفها أو تحبها إلى كل الأماكن التي عاشتها أو تعيشها، وتظلّ هناك تعشّش في زوايا الذّاكرة، وتستحثها على أنّ  “النّسيان” – في هذه الحال- ليس “فضيلة”؛ فالمكان “الذي نحبّه  يبدو وكأنه يتجّه إلى مختلف الأماكن  دون صعوبة، ويتحرّك نحو أزمنة أخرى” (1)، حيث تهرّب هذا المكان إلى كل متعلّقات الذّاكرة، وتعيد بعثه رسالة بعد أخرى.
لاشك العنوان “رسائل عشق دمشقية” رسالة كاملة بل هو نص عشقي بامتياز رغم  أن بريد الشعر يقف في خط الاستواء وتحت المطر الدائم بين الصورة الشعرية وحالة الامتلاء والاكتمال لتحرير الجواب من قفص السؤال.
وتراوغ ذاتيتها وتستدعي حضور الرجل لتتعرف على ذاتها ويكتمل بذلك وعيها بنفسها، بما أنها تخلق غيرها في حال انقسامها على نفسها لتصبح هي: الأنا والآخر، فالأنا (المؤنثة)عندما ترحل تدعو نصفها الآخر (المذكرة) للسفر واللحاق بها.
صعب أن تميّز بين “جورية السرور”  وبين دمشق وحلب وبيروت وبين النص الذي يسكر أو يتمرّد بين رسائلها..”فما دامت حياة الإنسان تعبيرا عن الأنا، فإنها تفترض وجود الآخرين ووجود العالم، ووجود الله”(2).
/حلب لن تموت/ستخرج من ألف تابوت/وستلبس الياسمين والياقوت/فيها الشيخ مولود/ولن تستباح في قلاعها عشتروت/ٍ ص-63
وصفوة القول: الرسائل تترجم ملامح الأم الكبرى الملهمة التي كانت وراء ممارستها الشعرية، وتحكي قصة الزيف البشري في هذا العصر الافتراضي فكل ما فيه من جمال مصطنع هو في واقعه، والرسائل برمزيتها القريبة وأسئلتها، تحكي ذلك الخواء وهذا الزيف القاتل، فينتهي الجواب إلى أن يكون ذلك الإرث خداعاً للفصول بتأوهات امتزجت بالرّغبات الجسديّة، والشّوق الرّوحي إلى ما هو أبعد من اللّحم والدّم.
أن الشاعرة قد وفّقت إلى حد كبير في نقل أحاسيسها الدمشقية المرهفة وترجمة أفكارها إلى بوح ياسميني آسر يزركش البياض ويدغدغ الذائقة وينم عن رؤية متقدة ورؤى متحررة جداً من الضغوط التي قد يولدها الاغتراب أو تتدخل فيها يد الحنين إلى وطن ضارب بجذوره ضمن جغرافيا مفخخة تتقاذفها ويلات الحروب وتصبغ براءتها مشاهد الجنائزية والدم. فهل واصل العمق الفلسفي في رسائل “جورية السرور” عمل الشعر؟
1-    باشلار، غاستون، جماليّات المكان،  ترجمة غالب هلسا، وزارة الثّقافة والإعلام، بغداد، 1988، ص

أحلام غانم