ثقافة

بلدٌ يكرِّم مبدعيه في أقسى الظروف هو بلد استثنائي

للفرحة التي غمرت قلوبهم قبل أن ترتسم على شفاهم.. وللسعادة التي كللت حضورهم يقيناً منهم أنهم اجتهدوا وتعبوا وأبدعوا، ما كان بالإمكان للأستاذ عصام خليل وزير الثقافة إلا أن يستقبل الفائزين بجائزة الدولة التقديرية للعام 2016: د.ناديا خوست في مجال الآداب وأ.محمد قجة في مجال الدراسات والنقد والترجمة والفنانة سلمى المصري في مجال الفن كشاعر بالكلمة التي ألقاها في حفل تسليم الجوائز الذي أقيم أمس في مكتبة الأسد الوطنية.

يبصرون الحياة بأوجاعهم
وجاء في كلمة خليل أن المبدعين عطور الحياة ومطر الروح، يرممون الأنفس العطشى فتحضر الأحلام ويتفتح العقل على مشارق الضوء.. فوحدهم يبصرون الحياة بأوجاعهم، فلا نجد سنابل يابسة في حقولهم، لأن من يبصر بالوجع يرسم إشارات المرور بالأمل واللهفة.. من هنا دعا إلى مرافقة د.ناديا خوست لنفهم كيف نهضت دمشق من ذاكرة وردة، وتفتحت على أرصفة الدهر سيدة للمدن، ومتابعة سلمى المصري لنفهم لماذا تنجب السوريات أبناءهن بإصرار الشموس على الشروق، وقراءة محمد قجة لنعرف دفتر عائلة البشر من أول السوريين إلى آخر الخلْق.
وأكد خليل أننا نكرّم أنفسنا حينما نكرّم المبدعين، فهم الضمير الواقف على مفترق الضباب، لا يشير إلا إلى حيث ترتدي البساتين خضرتها، ويستحق المبدعون السوريون كل التقدير والتكريم، لأنهم يرفدون الإبداع العربي والإنساني بأيقونات خالدة.. فخمس سنوات من الغربة والموت وهم واقفون على أهبة الحرائق، يكتبون بأرواحهم ذاكرة للريح كي لا يضل الربيع طريق العودة إلى أشجاره، ولذلك دعا خليل في ختام كلمته كل مبدع سوري أن يستمر في دوره الرافد لصمود جيش السوريين، الذي يمطر أرواحاً على عطش الأرض لتبقى خضرة سورية نضرة كاليقين، طافية كالأزرق على شراشف السماء.

تكريم لكل المثقفين
ورأى الباحث محمد قجة في كلمته التي ألقاها باسم الفائزين أن تكريمهم بالجائزة هو تكريم للثقافة بعامة، وهو تحفيز للمبدعين نحو مزيد من الألق والعطاء، لتطوير نتاجهم خدمة لقضايا وطنهم، مشيراً إلى أن الثقافة هي الوعاء الأشمل الذي يستوعب سائر القضايا التي تمثل الأبعاد الفكرية والنفسية والتربوية، والرداء الرحب الذي يحتضن التراث بشقيه المادي وغير المادي، مؤكداً على أن هذه الثقافة تواجه تحديات ممنهَجة حاقدة وهي كثيرة اليوم، مبيناَ أن هذه الهجمة على الثقافة العربية واللغة، أخطر من العمل العسكري والاقتصادي، لأنها تهدف إلى إلغاء وجودنا الذي صنعته القرون والأجيال، وكمثقف عربي أعرب قجة عن اعتزازه بانتمائه للثقافة العربية السمحة المرنة المحبة للآخر، وهو انتماء للحضارة السورية أرضاً وتراثاً، منوهاً إلى أننا مستهدفون في ثقافتنا وخصوصيتنا الوطنية.
كما أشار قجة في تصريحه لـ “البعث” إلى أهمية هذه الجائزة في هذه الظروف بالذات لأنها تؤكد أن الثقافة ما زالت ضمن الاهتمام الكبير، وهي التي تشكل شخصية الأمة، فتكريم مثقف أو مجموعة من المثقفين إنما هو تكريم لكل المثقفين وحافز لمزيد من الألق والإبداع الثقافي لكي ننطلق إلى أفق يتحقق فيه الأمان والسلام لبلادنا، مطالباً قجة المبدع السوري أن يتحلى بالثقة وألا يستعجل الأمور، لأن طريق العمل الثقافي طويل ولا يمكن القفز فوق الخطوات، لأنه يؤدي إلى مزالق مجهولة، والصبر والتأني والثقة بالنفس هي التي تحقق التراكم الثقافي الذي يؤدي إلى تكوين الشخصية الثقافية.

لا تفكر بالجوائز مع الكتابة
وتكمن أهمية الجائزة بالعموم بالنسبة لـ د.ناديا خوست كما صرحت لا لكونها تُقدَّم عن مجمل أعمال الكاتب تقديراً لإنجازاته وإبداعه، إنما لأن جائزة الدولة التقديرية بالأساس قُرِّرت عام 2012 أي في عزّ الحرب على سورية، وهذا يعني أن سورية لا تنسى أن الثقافة جزء من الدفاع عن الوطن، وهنا تكمن قيمتها بالنسبة لها، خاصة وأن معارك عنيفة تجري اليوم في حلب وأمكنة أخرى دفاعاً عن سورية ووحدتها، فيأتي حفل توزيع الجوائز كجزء من معركتنا الكبرى، وهنا يكمن جوهر هذا الحفل برأيها.. وللمبدع السوري بشكل عام تقول د.خوست: “يجب ألا تفكر بالجوائز حين تبدأ بالكتابة وإنما يجب أن تفكر بالقراء وبالمسائل العامة الاجتماعية والوطنية، ويجب أن تفكر إن كنتَ تعبّر عن الشرائح الاجتماعية وهل تستطيع أن ترتقي بمستواك المهنيّ بين سنة وأخرى؟” والجوائز –كما تعتقد- تأتي فيما بعد، وإن لم تأتِ فالمهم أن يقرأ الناس ما يكتبه المبدع وأن يشعر القارئ أنه يتحدث عنه وعن همومه.

الجائزة الأغلى
الفنانة سلمى المصري كانت سعادتها لا توصف بنيلها جائزة الدولة التقديرية، وقد بينت أن هذه الجائزة هي تكريم لها وللحياة الفنية في سورية ولكل مبدع سوري، منوهة إلى أن هذه الجائزة هي الأغلى على قلبها، لأنها جائزة الجمهورية العربية السورية التي لم تنسَ أبناءها المبدعين رغم الظروف الصعبة التي تمر بها. من هنا فهي تعتز بها لأنها ستمدها بطاقة جديدة وقوية لمواصلة العمل هي وزملاؤها، وستكون خير محرّض لها على العطاء والعمل المتواصل لمحاربة البشاعة والحرب بالفن والإبداع.

بلد استثنائي
وعن الأسس العامة التي تمّ اعتمادها لاختيار من نال الجائزة أكد د.خلف الجراد أحد أعضاء اللجنة أن هذه الأسس باتت معروفة للجميع، وهي تقوم على الحضور الذي تشكله هذه الشخصية في الأوساط الأدبية والثقافية والفنية على مستوى سورية والوطن العربي، ومدى التزامها بقضايا الوطن والثقافة العربية بمعناها الشامل ومدى قدرتها على التعبير عن هذا الالتزام، بشكل يحقق الوصول إلى أكبر عدد من الجمهور.. من هنا وقع الاختيار النهائي على هذه الأسماء، مشيراً في الوقت ذاته إلى أنهم لم يكونوا هم الوحيدون الذين يستحقون جائزة الدولة، فهناك عشرات المبدعين السوريين الذين يستحقونها، لكن كان من الضروري الأخذ بعين الاعتبار المسيرة الطويلة لهؤلاء.. من هنا وبكل موضوعية تحدث د.خلف  أن اللجنة كانت منصفة عندما اختارت هذه الأسماء لهذه السنة، منوهاً إلى أن سورية اليوم ورغم الجراح عينها على أبنائها، وخاصة المبدعين، فبلد يكرم أبناءه في أقسى الظروف هو بلد استثنائي يستحق أن يشار إليه بالبنان، مشيراً كذلك إلى دور هؤلاء المبدعين في هذه الحرب الظالمة التي نواجهها على جميع المستويات.

أمينة عباس