ثقافة

دمشق بين الأمس واليوم.. جماليات تختزنها الذاكرة

لم تكن محاضرة بقدر ما كانت حكاية جميلة على لسان إنسان نبيل عاشها وخبرها بكل تفاصيلها، في مجتمع كان يحكمه الحب والتعاون والصدق، وهو ما نفتقده اليوم في العالم المادي حيث باتت المصلحة والغاية تحكمان تفاصيل كثيرة قدمها د. صادق فرعون من خلال محاضرته التي ألقاها في مجمع اللغة العربية بدمشق مؤخراً تحت عنوان “مجتمع الشام بين الأمس واليوم”.. انطباعات شخصية لخص من خلالها حياة أجيال وقيم نبيلة كانت تحكم الإنسان الدمشقي، وهو ما يمكن أن نقرأ عنه في كتب التاريخ لأن كل ذلك اختفى إلا من ذاكرة من خبروه وعايشوه أمثال د. فرعون.

بداية الحكاية عندما كانت الشام جنة صغيرة محاطة بالغوطة التي يرويها نهر بردى الذي كانت ضفافه مكاناً للنزهة والسيران لأهالي دمشق، وبالتأكيد كان للعمارة الدمشقية الأصيلة طابعها ومميزاتها، فقد كان البيت في تلك الأيام يتألف من طابقين: أرضي وأول، وكان يشكل وحدةً تامة ومستقلة هنا دخل فرعون في تفاصيل المنزل الدمشقي وأجزائه العديدة، ووظيفة كل قسم من الأقسام فيه إضافة للنباتات والأشجار التي كانت تزين باحة المنزل كالليمون والنارنج والشب الظريف وهي ما تشتهر به البيوت الدمشقية عامة.
هذا المنزل كان مكاناً للمحبة والحنان والتفاهم والتعاون وهو يضم أفراد الأسرة الكبيرة التي تتألف عادة من الجد والجدة ومن البنات والأولاد والأحفاد: ثلاثة أجيال تعيش في جو لا يمكن أن يُدرك سحرَه وجماله إلا من عاش فيه. هذه المحبة والألفة لا تقتصر على البيت بل تتجاوزه إلى الحارة التي تؤوي العديد من البيوت والعائلات المتحابّة والمتآلفة، لتشكل أيضا عائلةً وخليّة واحدة أكبر من سالفتها وصولاً إلى الحارات التي تتعانق لتشكل الأحياء. باختصار كانت “الشام” عائلة كبيرة واحدة يخيم عليها الحب والتسامح والتراحم والتآزر لكن يبدو أن للجمال نهاية، فالمحاضر الذي يعترف بأنه ما زال يعيش تلك الحقبة الزمنية الساحرة، بتفاصيلها التي تعشش في ذاكرته بكل ما فيها من محبّة ودفء وألفة وأمن، يؤكد أن ذلك العالم السحري الجميل قد اختفى وتلاشى، ففي عالم اليوم كل إنسان يفكر بنفسه ولا يهمه أمر في هذه الحياة إلا الجانب المادي، ومقدار ما سيجنيه من مال في نهاية اليوم، وما يحكم علاقته بالآخرين هو الفائدة والمصلحة فقط مع قدرته على التلون في التعامل معهم وفقاً لذلك، وهذا الفساد تجاوز الأشخاص ليصل تأثيره إلى المجتمع من حولهم ليتجاوز ذلك أيضاً حدود البلد وينتشر في العالم.
هذا الفساد البشري يقوده  “العالم الجديد” – الولايات المتحدة الأمريكية – التي يحكمها ويسيطر عليها، وبالتالي على العالم أجمع ثلة من أصحاب المليارات من يهود ومتهودين، يتلخص قانونهم ومبدأهم في الحياة بأن قيمة الإنسان تقدّر بعدد الدولارات التي يملكها، وفي هذا المجتمع الابتسامة لها ثمن والتحية واللطف كذلك هذا الواقع نخر المجتمع وتغلغل فيه حيث يندر في أيامنا هذه أن يزور جار جاره وأن يعوده إن مرض إلا إذا كان في ذلك فائدةً شخصية، وقلما يلعب الأطفال مع جيرانهم من أطفال هذه الأيام، فهناك جدران غير مرئية تفصل كل بيت عن الآخر، وتفصل بعض أجزاء الأسرة عن بعضها البعض متى تزوج الشاب، فغالباً ما تتقلص علاقاته مع والديه، واليوم أيضاً اختفت الحارة وكذلك تفتتت المدينة واختفت الغوطة بأكملها، بعدما هاجمتها أساطيل الإسمنت والحديد والبلوك فاتكة بكل عرق أخضر من تلك الغوطة الساحرة القديمة، وتحول الإنسان إلى آلة مبرمجة تفتقد الحب والحنان والاهتمام بالآخر.
وختم د. فرعون رحلة ذكرياته بعبارة من رواية تروي مأساة مقاطعة “ويلز” البريطانية والتي كانت من جنان الله في أرضه، حتى جاءها المستعمرون الانكليز فهتكوا خضارها وبراريها، وخربوا أرضها بعدما حفروها واستخرجوا “الفحم الحجري” الذي غطى كل أراضيها الخضراء فقتل كل زرع وأفقر أصحاب الأرض وأغنى المستعمرين الجدد، كذلك أفسدوا روح الشعب الويلزي وفككوا روابطه وأماتوا المحبة والتلاحم ما بين أفراده وطبقاته، وتنتهي الرواية المأساوية حينما ردد ابن المقاطعة الشهيدة مرثاته: “كم كان وادي بلدي أخضر اللون”.بالتأكيد فرعون ردد هذه العبارة وكله أمل أن تعود الغوطة إلى سابق عهدها، وأن يعود الإنسان أصيلاً مفعماً بالحب والطيبة والتسامح، وليحدث ذلك علينا جميعاً أن ننقي نفوسنا من تلك الجرثومة الخطيرة والقاتلة، الآتية من الغرب المادي الذي لا يؤمن ولا يأبه بأية مُثلٍ أخلاقية وإنسانية.
جلال نديم صالح