على عينك يا تاجر “توت شامي” يحرق الحنطة.. ليقطف الليمون!..
عند “معراج النص” وقف يردد “نشيد الزيتون”, كان يعي تماماً أنه قد يخيب في “المغامرة الثانية”, ليس لأن قواه أنهكتها الريح العتية, أو لأنه توجس لبرهة أن بوصلة وقته ضلت سبيلها, وحده يعرف “طيور الجهات المخاتلة” كيف نبشت عن سابق نية “جمر الموتى”, كي تشي لممالك “تحولات الرمل” بأنها استطاعت “قبل فوات الحكاية” سد “درب حلب”.
في إصداره الأخير “توت شامي” – الصادر عن دار الشرق للطباعة والنشر والتوزيع الدمشقية 2016- الدكتور: نضال الصالح, وفي غير مكان وزمان يجلو بي نحو المقولة القائلة: “لا يفتى ومالك في المدينة”, والتي نحت بي أيضاً صوب السؤال: كيف التيمم بالرمل في حضرة الماء؟.
فمنذ العتبة الحامل “توت شامي” والتي تشي دلالاتها ومضامينها الداخلية والخارجية بأن الصالح دأب لتدوين محطات متصلة منفصلة تحاكي اليومي, تحت وطأة واقع فرض نفسه قسراً, من خلال ممكناته الخاصة, حيث أنه تمكن تطويع النص السيري لصالح اللغة قبل المكتوب عنهم, وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الصالح غرّد خارج سرب الحكاية, عندما حرر الكتابة من أسر أناها إلى فضاءات المواضيع, بمعنى وكما هو معلوم ومن خلال مراقبة المنتج السيري الشائع, والذي نجد فيه بأن منتج “الأنا” قد غلب على الحالة العامة.
هنا أخلص بالقول إلى أن هذا التدوين هو تدوين قصدي, تمت إعادة إحيائه كذاكرة شفوية تراثية توسمت الوطن, كتحد لهجمة سافرة همها الأوحد طمس هذه الذاكرة, حيث مررها الصالح دون عناء وبسلاسة متناهية, أتت متناغمة مع رتم الحكايات التي اجترعها لبنيان نصه, بأسلوبية محببة تداعب الوتر الحسي لقارئه الملول, عندما دخل إليه من باب الأغنية البلدية ليوصل فكرته, بل أجزم بأنه كان يصبها صباً في أذن متلقيها, كما نقل لنا لهفة “سلمى” عند لقاء حبيبها “سالم” والذي استقبلته بأغنية:
“سالم حبّيتو، واللهِ قلبي وعطيتو، يا سالم عيني يا زغيّر”, حيث رد سالم: “هيّمتني، تيّمتني، عن سواها أشغلتني. أخت شمسٍ، ذات أنْسٍ، دونَ كأسٍ أسكرتني”.
ليعلو النشيد صدحاً إلى مفازات أخرى تدغدغ مسام الروح, بدءاً من: “هالأسمر اللون، هالأسمراني” و”يا بو عيون وساع”, ليرمح بالنهاية صوب أول الحكاية:
“سالم حبّيتو، واللهِ قلبي وعطيتو، يا سالم عيني يا….”.
صعوبة تجنيس..
وبوصفها ــ محتوى الكتاب- مجموعة مقالات نشرت بغير صحيفة تباعاً, كان لزاماً أن تنحاز إلى المقالة الصحفية بذاتها والتي لها حواملها وهيكليتها البنائية الخاصة, حيث أنها تنحو نحو الكتابة الخبرية من خلال تدوين علائقها وطرق اشتباكها مع صنوف أدبية أخرى, وأشير هنا إلى أن الصالح أخرجها من إطارها المعتاد بفاعلية السرد الماتع والذي يخسره الكثير من الكتّاب حين يقعون تحت سلطة تدوين الحالة كمستند, مما يجعل منتجهم جافاً وباهتاً, وهو ما عمل عليه بجد ليجعل من هذه المقالات, حسب زعمه: تستعصي على التجنيس، أي بوصفها نصوصاً عابرة للأجناس، فلعلّه من الصواب أن وصفها بأنها نصوص تنتمي إلى ما كان “بارت” اصطلح عليه بالنصّ القابل للكتابة، أي النصّ الذي يفرض على القارئ المشاركة في إنتاجه، ولاسيّما إذا كان محمولاً على لغة مناوئة لليوميّ والمألوف”. وهو افتعال لافت لفك أسر المقالة الصحفية من إثم يباسها, إيمانا منه بأن الحياة أجمل من الجنة, لذلك كان همّه رفع أسهم الحب في بورصة القتل الأسود الذي داهم البلاد من غير جهة، وحامل الحب الذي ترك له القول الفصل في نهاية كل حكاية اشترعها: “… حتى باغتتها رسالة من عليّ كان أرسلها إليها قبل أن تصعدَ روحه إلى رغدها، وحتى كانت رغد تمضي في نوبة نشيج لا يسمعه سواها. لم يكن في الرسالة سوى كلمة واحدة: أحبّكِ”.
نبوة..
ليس لقارئ ما أو ناقد كان من يكون, أن ينفي بأن “توت شامي” هو خلاصة تجربة مكينة عارفة, من خلال مضمرها ودوالها المؤللة بالإسقاطات والاستعارات, وهذا ما جاز للصالح التحليق في سماوات الكتابة, ولكنها وجهة النظر التي تخصني, حيث رأيته يطير بجناح واحدة, وأنا أمام سؤال “توت شامي” الذي خص جغرافيا ما من أرض الوطن على حساب أخرى, وهو الذي يمتلك سلطة حبر تروي ألف حقل!.
النمسا – طلال مرتضى