“أريسيان وباغبودريان” يشتركان في كتاب “كوميداس والموسيقا الأرمنية”
“لقب كوميداس بالنوتجي لأنه كان يسجل الألحان المغناة ويختبئ بين حلقات الرقص ليدوّن الأغاني والرقصات الشعبية، كان يبقى وحيداً في غرفته الفارغة إلا من طاولة وكرسي عادي، أما سريره، فلم يكن مكوّناً إلا من خشبة وأغطية بسيطة. كان كوميداس يعيش حالة من الحلم بين تدفق الأنغام وعذوبة الأصوات”.
كوميداس الذي أثّر في حياة الشعب الأرمني فأصبح جزءاً لايتجزأ من تاريخه ومصيره الحزين، كان من ضحايا الإبادة الأرمنية التي قضت على إبداعه الموسيقي والإنساني- كونه كاهناً -فتعرض لصدمة عصبية أمضى إثرها بقية حياته في المصح، بعدما جمع التراث الغنائي الأرمني الديني والشعبي وحفظه من الضياع، ورسخ أسس الموسيقا الأرمنية وبيّن خصائصها بعيداً عن تأثيرات موسيقا الشعوب الأخرى، وأوجد رموز النوتات الأرمنية وفكّ ألغازها، وتطرق إلى العلاقة بين اللغة الأرمنية والموسيقا. مما جعله من أكثر الشخصيات العالمية تأثيراً لرمزه إلى الإبادة الثقافية، وقد وثّق الكتّاب حياته وإبداعاته في كتبهم وأبحاثهم.
ارتأت د. نورا أريسيان تقديم أول كتاب توثيقي عن حياة كوميداس باللغة العربية، والأمر الهام أنها استمدت معلوماتها من عدة كتب ومقالات ودراسات وأبحاث حتى تقدم لمحة شاملة عن إبداعه، بالتعاون الموسيقي مع المايسترو ميساك باغبودريان.
تميّز الكتاب بغنى السرد التفصيلي الموسيقي وبالتنوع السردي بين التحليل والتوثيق لاسيما في المقتطفات الجميلة التي أوردتها المؤلفة من السيرة الذاتية التي كتبها كوميداس بنفسه، وفي الوقت ذاته يعدّ وثيقة ثقافية للأدب والتراث الأرمني باعتمادها على مؤلفات عدد من الكتّاب والأدباء، منهم الشاعر باروير سيفان والكاتب خاتشيك سافاريان، إضافة إلى شهادات عدد من الموسيقيين، من أشهرهم آرام خاتشادوريان، والأمر الهام أيضاً التعريف بالتراث الغنائي الإفرادي والجماعي مثل “عندي حبيب-أيها القمر الجميل –بحثت في الأرض الخضراء”. وربما يكون هذا الكتاب نواة لسيناريو فيلم توثيقي يتناول جوانب عدة من حياة كوميداس.
الأجناس الرباعية
تناولت المؤلفة في فصل “الراهب كوميداس، مسيرته في جمع الأغاني وتسجيلها، ورغم أنه رجل دين إلا أن ذلك لم يمنعه من التنقل بين الأرياف والاستماع إلى أغنيات القرويين. وكما أوردت الكاتبة فإن كوميداس لم يهتم بالموسيقا فقط، بل بالتاريخ ولغات الشعوب والفلسفة، وإضافة إلى الموسيقا درس الأغنية الكردية والجورجية والفارسية والعربية والبيزنطية، وأثناء وجوده في أوروبا تعرف إلى الموسيقا الفرنسية والألمانية والروسية، والأمر الهام الذي قام به كوميداس إضافة إلى جمع أكثر من ثلاثة آلاف أغنية أرمنية وتقديمها بشكلها النهائي من خلال الغناء المنفرد والغناء الجماعي وتعدد الأصوات، هو تنقية الموسيقا الأرمنية مما يشوبها ليجعلها ذات طابع خاص متميز، فأوجد القواعد الحقيقية للأغنية الأرمنية، إذ تعلم كوميداس نظام تدوين جديد للنوتات الأرمنية، وهي علامات أرمنية تحمل قياساً وزمناً ومعنى معيناً، وبيّن أن الموسيقا الأرمنية مبنية على الأجناس الرباعية “التيتراكورد”وليس على طريقة السلم ذي الثماني درجات، فكما يؤكد كوميداس فإن كل أغنية أرمنية كنسية أو شعبية تكون مكتوبة على مبدأ الأجناس الرباعية، والمبدأ الثاني الذي اعتمده الوزن الأرمني الذي يتعلق بمواقع الضغط والشدة في الكلمات والعروض والمعنى وهي ليست مقيدة بمقاييس ومعايير الأوزان الأوروبية، فنجد أن الضغط والشدة تمثلان المبدأ الثالث.وأثبت كوميداس أن الأغنية الأرمنية لها خصائص اللغة الأرمنية، ورأى أن الموسيقا هي ضرب من الحركية كالضوء والحرارة والكهرباء.
ثمانية أصوات
وتطرقت المؤلفة في فصل “كوميداس وقضايا في دراسة فن الغناء الروحي الأرمني” إلى فنّ الغناء الكنسي الأرمني أحد أكبر جزء من الثقافة الموسيقية القديمة وموسيقا القرون الوسطى في أرمينيا، كما قال كوميداس:”إن موسيقانا تقسم إلى قسمين أساسيين: “الكنسية والدنيوية أو الشعبية”، فنظر إلى القواسم المشتركة الهامة في الموسيقا والغناء الكنسي والشعبي، وقام بتطبيق العلامات الأرمنية لحالة الثمانية أصوات بغية التمييز بين سلالم الأغاني الكنسية والشعبية، فأوضح ارتفاع طبقات الصوت بشكل مشترك بين الأغاني الشعبية والكنسية، والتوافق بينهما إد قال: إن ألحان تلك المجموعتين تشكل ظاهرة لافتة بحيث إن الصوت والكلمة أو بكلمة أخرى الموسيقا والقصيدة تحملان بصمة إبداع الشخص الواحد في الوقت نفسه.
الثراء اللغوي
ومن خلال الأمثلة تمكّنت الكاتبة من إيضاح الرأي الذي توصل إليه كوميداس بأن الفن الكنسي كان يستخدم منذ فترة تشكيله الثراء اللغوي المتراكم منذ زمن بعيد في الموسيقا والغناء الدنيوي، وعلى مر الزمن بث روحاً دينية في بعض الأنواع من الموسيقا الدنيوية خاصة في الأغاني الشعبية الخاصة بالفلاحة والأغاني الطقسية. واهتم كوميداس بالتراث الذي تركه المتخصصون بالتراتيل الدينية في القسطنطينية في القرن التاسع عشر في تأسيس صيغة جديدة لتسجيل الألحان الأرمنية وتدوين مئات النماذج من الموسيقا الكنسية الأرمنية، منها ما وصل على شكل مجموعة مخطوطات، ومنها ما وصل شفهياً.
انحسار المزامير
الأمر الهام الذي توقف عنده كوميداس هو ملاحظته للتعديل الكبير الذي طرأ على الغناء الكنسي الأرمني خاصة في مراسم القداس، نتيجة تعليم بعض المنشدين تلاميذهم التراتيل ومراسم القداس بألحان تركية وشعبية وألحان أجنبية كانت دخيلة، لتنتشر في كنائس القرى والمدن في أرمينيا الغربية.كما بحث في هذا الفصل أيضاً الاختلاف بين الفن الروحي والشعبي.
التراتيل والأناشيد والتبشيرات
وتابع كوميداس بحثه عن تطور الغناء الروحي فأشار إلى أنه في بداية القرن الخامس بدأ دور غناء المزامير في طقوس العبادة بالانحسار أمام الغناء الروحي الخاص والمؤلف حديثاً فتقدمت وتطورت، فالتراتيل أغلبها من النثر وقليل منها قصائد موزونة، وهي نوعان: توكيدي ومقطعي، والأناشيد: وهي خطب حقيقية موزونة، التبشيرات وتنسب إلى موفسيس خوريناتسي وانتقلت بالتواتر الشفهي، وتوصل إلى أن كل ألحان الأناشيد والأغاني الروحية تطورت وتغيرت وفق أذواق العديد من الأشخاص، لأن استخدامها ليس ملزماً،أما التراتيل فكانت ملزمة ومحددة الاستخدام فلم تتغير فعلياً، الأمر الهام أيضا هو توصل كوميداس إلى رموز علم التدوين للموسيقا الأرمنية وأورد قائمة الرموز، بالشكل التالي المفتاح- درجة الصوت- (نصف درجة) التنقيط-الأسلوب- قوة الصوت.
القرب من الموسيقا الروسية
في فصل “كوميداس وعلاقته بموسيقا الشعوب الأخرى” بيّنت الكاتبة علاقة كوميداس بالثقافة الموسيقية لدى كل الشعوب التي احتك بها الأرمن، فتعرف إلى الموسيقا الكردية، فكان أول من نشر نماذج منها، إضافة إلى الموسيقا الروسية التي تعرف إليها منذ دراسته في معهد كيفوركيان في إيتشميادزين فدرس أعمال الروس المتعمقين بالموسيقا الشعبية مثل أغاني غلينكا وبالاكيريف وموسوركسي، واستطاع نشر حبّ الموسيقا الشعبية الروسية وإيجاد جوانب عديدة من الفكر الموسيقي لدى الشعبين الأرمني والروسي.
ملده شويكاني