بدوي الجبل.. أبجدية وطن ومدرسة شعرية خلاّقة
بدوي الجبل شاعر له تميز خاص، شكّلته الطبيعة من تنوع صلصالها، ولوّنت خياله بأقواس قزح وبثت في روحه جذوة الإبداع، عاش الحياة بقلب كبير، يفجره الضوء ويلّم عتمته، لايقرأ ما في الأبجديات فقد كانت له حروفه وأبجدياته، بدوي الجبل الشاعر الذي أخذ من نفسه كل ملامحه، ومن قلبه جمّع لغته ونشر أوردته طريقاً، وفي كفه حمل روحه لا يلوي إلا على حب. قدّم إبداعاً متفرداً، فكانت مسيرته الأدبية حافلة بالعطاء، شغف بالحياة وأحبها، فهو المبدع المتميز والمؤثر في كل ما خطّه قلمه، وقد كان صاحب مشروع أدبي وذا رؤية متكاملة ومنسجمة، وهذا دليل على صدق تجربته الإنسانية أولاً والأدبية ثانياً، رؤية حملت هموم الوطن والناس.
وكانت وزارة الثقافة ممثلة بالهيئة العامة للكتاب قد أعادت إصدار ديوانه “بدوي الجبل” بتوجيه من السيد رئيس الجمهورية كما جاء في تقديم الوزير للديوان في طبعة جديدة عملت وزارة الثقافة على تدقيقها وتنقيحها وفق التصويبات التي أوردها الشاعر العربي الكبير الراحل بخط يده على نسخة الطبعة الوحيدة الصادرة في بيروت عام 1978. تبعها مقدمة لذوي الشاعر جاء فيها: “نجزم أنه لو كان البدوي حياً، ورأى البطولات والتضحيات التي سطرها رجال الجيش العربي السوري، وأبناء شعبنا الأبي الذين ظلوا أوفياء لقيم الإباء الوطني والعزة القومية واستقلال سورية ووحدتها- هذه القيم التي بذل بدوي الجبل عمره منافحاً عنها- لما أهدى ديوانه إلا للشهداء الأبطال الذين يحصنون بدمهم النبيل كرامة سورية ورفعتها”.
يُعطي الشَّهيدُ فلا والله ما شَهِدَتْ
عينِي كإحْسَانِهِ في القوم إحْسَانا
وَغَايةُ الجُودِ أن يَسْقي الثَّرى دَمَهُ
عندَ الكِفاحِ ويَلْقَى اللّهَ ظَمْآنا
ومهد صديق الشاعر أكرم زعيتر للديوان بمقدمة من أهم القراءات التي قُدمت في شعر البدوي لقربه منه ومعرفته العميقة والحميمية به، ومن ثم جاء ترتيب قصائد الديوان مرتبة كما في الإصدار الأول بدءاً من قصيدة “الكعبة الزهراء” حتى آخر قصيدة في الديوان، ثم ملحق لقصيدتين تنشران لأول مرة الأولى هي تحية وفاء قدمها الشاعر إلى ميخائيل إليان، والقصيدة الثانية نظمها الشاعر في رثاء الشيخ عبد الله درويش.
كان “البدوي” يلتقط من مجلس والده كل ما يسمع من نظم ونثر يختزنه في صدره وعقله ليزهر أثره فيما بعد، درس نهج البلاغة والأغاني ومؤلفات الجاحظ وكتب التوحيدي وحفظ الكثير من أشعار كتب التراث الشعبي امرؤ القيس أبو تمام والحسن المكزون السنجاري. فقد نشأ في بيت علم ومعرفة وتصوف وهذه المسألة تركت أثراً عميقاً في تشكيل ثقافته ونتاجه الأدبي المتصف بالأصالة، وبناء على رغبته عندما كان يافعاً طلب من أسرته الانتقال إلى دمشق، وفعلاً لبت الأسرة طلبه ودرس في مكتب عنبر، المدرسة التي كانت تضم نخبة من رجالات سورية في مطلع القرن العشرين، في تلك الفترة كانت دمشق المحطة الأولى لانطلاق الثورة السورية الكبرى التي قادها الشريف حسين، وشهدت ولادة الحكومة العربية الأولى في العصر الحديث، هذه المسألة شحنت الشاعر بمشاعر قومية هائلة كان لها أثرها الكبير في تبنيه للفكر القومي، وفي إيمانه العميق بأمته وأصالتها، وضرورة أن تحقق شخصيتها على ساحة الحضارة العالمية، ويمكن أن ندرك مدى أهمية الشاعر من خلال الأصدقاء المحيطين ومعارفه في ذلك الوقت، كـ يوسف العظمة والثائر صالح العلي وكان على صداقة مع شكري القوتلي، وله بصمات واضحة في تاريخ سورية الحديث.
أبجدية الوطن
جاء شاعرنا من مدينة الأبجدية الأولى، من قرية ديفة في اللاذقية إلى دمشق، كانت رحلته الطويلة، وكانت الشام لديه عشقاً وانتماء ووطنية وقومية، ويعتبرها ملهمته في هذه الحياة.
“إن أشعاري تمليها عليّ دمشق أكثر من أي شيء آخر، حيث كانت حبه وهيامه حتى في الغربة، حيث بثها لوعته وأشواقه:
تطوحني الأسفار شرقاً ومغربا
لكن قلبي في الشآم مقيم
وفي قصيدة أخرى تمثل له الشام كل الأشياء الجميلة التي لايلام على حبها محبوها.
لاتلمـــــــــــــــــه إذا أحــــــــب الشــــــــآم
طابت الشآم مربعاً ومقاما
مارأينا الشآم إلا رأينا
منـــــزلاً طيباً وأهلاً كراما
نبض الوطن العروبي
إنه سنديانة الشعر ونبض الوطن، قال عنه سعيد عقل: “بدوي الجبل أحد قلائد الشعر في الدنيا”.
وقال عنه نزار قباني: “بدوي الجبل السيف اليماني الوحيد المعلّق على جدار الشعر العربي، في حنجرته ألف لبيد وألف شريف رضي وألف أبي تمام.عبقرية فذة ورمز الكبرياء، بدوي الجبل شاعر السيف والقلم”.
نقرأ البدوي في ضوء انتمائه للعروبة ليس الماضية بل القادمة إلى ماينبغي أن يتخيله الإنسان، إلى المستقبل، لذلك عندما تحدث عن ميسلون والجلاء لم يكن يتحدث عنا لأنها حدث تاريخي مضى، وإنما حدث تاريخي متجدد، فبعد معركة ميسلون مر الشاعر بدار الملك فرآها مقفرة فنظم قصيدة بعنوان “مرابع الأحباب” أهداها للشهيد يوسف العظمة نقتطف منها:
بَعُدَ الذين أُحبّهم والوجد يزكيه البُعاد
وَيْلَ الجيادِ فقد نأَتْ بأَحِبَّتي تلك الجياد
بَعثُوا خيالُهمُ وكيف به لمن حُرِم الرقاد
أَتُراهُمُ عَلِموا بمن أصفاهم صِدقُ الوداد
أكبر شاعر كلاسيكي معاصر
“بدوي الجبل علم الشعر العربي، هذا ماقاله فيه بشارة الخوري، أما الشاعر محمد الماغوط فقال: البدوي آخر جمرة في صقيع الشعر العربي”. بينما قال عنه أدونيس: “بدوي الجبل أكبر شاعر كلاسيكي معاصر وواحد من كبار شعراء العربية في مختلف العصور”. أما الجواهري فقال: أكبر شاعر عُرف في هذا العصر، بدوي الجبل وشاعر آخر، وربما كان الجواهري يقصد نفسه بهذا الكلام.
تجلت في شعره أبرز معاني الوطنية والقومية، عانى الهم القومي وآمن برسالة الأديب ودوره في النضال ضد المستعمر وجسّد ذلك قولاً وفعلاً، كل ذلك أكسب التجربة الحياتية والإبداعية للشاعر الكثير من الغنى والأصالة لتؤهله لتلك المكانة الرفيعة التي بلغها في عالم الأدب والحياة معاً. وإذا عدنا إلى تفاصيل شعره التي تحمل قيماً عربية أصيلة، فالفخر والكبرياء والإباء بالنسبة إليه لم يكن شيئاً من العجرفة، بل كان يحس بالكرم وبنفسه، وهذا ما عبّر عنه في قصيدة الإباء والكبرياء التي أهداها إلى روح هنانو:
“وما حاجتي للأفق ضَحْيان مُشرِقاً
ونفسي الضُحى والأُفقُ والشمسُ والبدرُ
وما حاجتي للكائنات بأَسرها
وفي نفسي الدنيا وفي نفسي الدهر
ونَفْسي لو أن الجمر مسَّ إباءَها
على بِشْرِها الرَيَّان لاحترق الجَمرُ”
كان الشاعر معتز كثيراً بشعره يقول:
“الخالدان- ولا أقول الشمس- شعري والزمان”
وبقي الغزل يزين شعره ويفرض عليه أعذب أشعاره فقد رثى ابنته التي توفيت أثناء ولادة طفلها بقصيدة منها هذه الأبيات:
سـل الجمر هل غالى وجنّ وعذبا
كفرت به حتى يشوق ويعذبا
ولا تحرميني جذوة بعد جذوة
فما اخضل هذا القلب حتى تلهـبا
ومانال معنى القــلب إلا لأنه
تمرغ في سـكب اللـظى وتـقلبا
هبـيني حزنــا لم يمر بمهجة
فما كنت أرضى منك حزناً مجربا
وأسلوب البدوي، كما جاء في مقدمة الشاعر زعيتر، خال من التعقيدات اللفظية والمجازات المصطنعة وجماع القول فيه: جودة سبك، إشراقة لفظ بداعة خيال متانة لغة سراوة عاطفية وعطور وطيوب وذكريات وأغاريد وزغاريد ونعميات وجوامح وثارات ونجاوى وهمسات وهموم وأطياف أحبة ودموع وآهات وعمق في تصوف وابتهالات.
ويتابع الشاعر زعيتر، لعل آراء الشاعر في الشعر تفصح عن أسلوبه، وصداقتنا الحميمة مكنتني من استبار مذهبه في قديم الشعر وحديثه: إنه لايؤمن بوجود مدارس شعرية، فالشعر إما أن يكون رفيعاً أو لا يكون، وهناك شعراء لامدارس، والشعر المسمى بالحديث لاهوية له، ولايثبت على الزمان ما تخلى عن الأوزان وتنكر للطابع والروح العربيين، وقد يكون الكلام فلسفة أو حكمة، وقد يكون رائع الخيال وقد يكون كل شيء إلا أن يكون شعراً عربياً فيه وسامة الشعر العربي ونشوته، نعم إنه يفتقد الجمال الشعري لأن الأوزان عذوبة ونغم وجمال وعطر، وهي هدية الله إلى الروح، وقد قامت بينه وبين الشعراء الذين أطلقوا عليهم لقب الشعراء المحدثين الكثير من المساجلات فقيل له مرة أن الشعر القديم أصبح في هذا الزمن يدور في فراغ أمام معطيات العصر، فأجاب وبكل ثقة: “إذا كان الشعر القديم يدور في فراغ، فما أتى من الشعر الحديث لم يملئ هذا الفراغ، وبالتالي انطلق من فراغ وبقي يدور في فراغ”.
بدوي الجبل تاريخ أمة وثقافتها وحضارتها. أبجدية وطن خالد برموزه الذين يسطرون التاريخ بأحرف من نور، مدرسة شعرية متميزة خلاقة، ووطني عشق تراب بلاده وترك إرثاً خالداً يؤسس لجيل سيكون ألقاً لسورية، أضاف شعره إلى تراثنا العربي العظيم تراثاً جديداً.
سلوى عباس