جائزة عمر أبو ريشة.. مواصلة الطريق الذي بدأه صاحب “غنيت في مأتمي”
اختتمت في السويداء فعاليات جائزة عمر أبو ريشة الشعرية وهي جائزة سنوية أطلقتها مديرية ثقافة السويداء لأول مرة في شباط عام 2012 تقديرا للشاعر أبو ريشة ودوره الوطني والأدبي الكبير وتخليدا وإحياء لتراثه الأدبي والفكري.
جمالية الكتابة
مدير الثقافة بالمحافظة منصور حرب هنيدي بيّن أن مسابقة عمر أبو ريشة للشعر العربي هي أحد النشاطات النوعية التي تشكل عنصر جذب لاستقطاب الكثير من رواد مراكزنا الثقافية مشيرا إلى أن أحد أهم أهدافها اكتشاف المواهب الشعرية المهمة وتقديم أصوات شعرية جديدة.
من جانبه أوضح الدكتور نضال الصالح رئيس اتحاد الكتاب العرب وعضو لجنة التحكيم أن تخصيص السويداء بمثل هذه المسابقة، هو انعكاس لما تحمله هذه المحافظة من ارث فكري وثقافي مستند إلى ارثها التاريخي، مشيرا أن اللجنة أجمعت واتفقت على معيار أساسي في التقييم هو جمالية الكتابة والمستوى الفكري واللغوي للنص، بالإضافة إلى الجانب الوجداني للشاعر مشيرا إلى المستوى العالي للنصوص الشعرية المشاركة لهذا العام، مبينا في الوقت نفسه أنه نشر كتابا بأعمال الدورات الأربع لمسابقة عمر أبو ريشة للشعر العربي تشمل جميع القصائد التي كتبت ونوه بها.
ويرى كنانة الشهابي راعي ومقدم المسابقة أنها حققت قيمة شعرية عالية واستطاعت أن توظف الشعر على الصعيد الوطني بطريقة أدبية وإنسانية ناجحة. مؤكدا أن سورية خلاقة ومعطاءة منذ الأزل ولا تزال ولادة للإبداع الأدبي والفكري رغم كل الظروف.
تفاعل جوهري
وقد أدرك القائمون على إطلاق الجائزة طوال السنوات الخمس الماضية من عملهم ثنائية التفاعل الجوهري العميق بين عمق البناء الفني للشعر وعمق رؤيته للوجود والعالم، تفاعلا إنسانياً تركته الرومانسية أمانة غالية في أيدي البشر، حتى قال الشاعر الفرنسي تشارل بودلير: “تركت فينا الرومانسية جراحا،سوف لن تندمل”، وقد وفق النقاد الذين قارنوا بين بودلير وأبي ريشة، في اكتشاف أسس جوهرية عميقة لكل عمل أدبي عظيم، متوقفة عند القيم النقدية التي رسخها أكابر نقاد العربية في العصر الحديث ومن ذلك رؤيتان مهمتان تحدث عنهما الدكتور راتب سكر عضو لجنة التحكيم أولهما تفاعل أربعة مكونات أساسية في تشكيل أي نص أدبي مهم:فكري، ووجداني، وتخيلي، وأسلوبي لغوي وموسيقي. وكان فؤاد الشايب في أربعينيات القرن العشرين من رواد من نبه إلى ذلك، ثم جاراه كثيرون من أبرزهم في الدرس التطبيقي الإجرائي إيليا الحاوي وثانيهما أهمية التجربة البشرية الشاملة في تشكيل مصادر موضوع العمل الأدبي المهم وبنائه الفني. وقد كان د. محمد مندور من رواد توجيه النقد العربي الحديث إلى ترجيح التجربة البشرية مصدرا جوهريا للعمل الأدبي، وعلى الرغم من الوعي النقدي بأن مكونات هاتين الرؤيتين غير متساوية أمام قوانين الإبداع الأدبي، فإن احترام حق كل منها في الفعل والتأثير مشروع.
حالات فنية
اثنان وعشرون شاعرا ينتمون إلى معظم أجزاء الجغرافيا السورية، تنافسوا على جوائز المسابقة انتمت إلى حالات فنية ثلاث كما يقول منسق الجائزة د. ثائر زين الدين الأولى: مركزية دلالات الرمز، أو القناع، أو التناص، كما يظهر جليا في قصيدة”عودة يوسف” التي تهيمن فيها ظلال من قصة “يوسف” محملة بصوت الشعر المعاصر في مكابدات زمنه، لتقديم لوحة فنية شعرية جديدة ثنائية الصوت تثري بحوار ثنائيتها وصراع مكوناتها من جهة وبمشاركة المتلقي حقلا معرفيا أثيرا لديه، من جهة أخرى بنائها الدرامي الذي غدا من ابرز مكونات الحداثة الشعرية، وتنبني قصيدة “مجداف وشراع في ظلام” فنيا في الاتجاه نفسه بهيمنة قصة ذي النون وغيابه من بطن الحوت والصراع بين قسوة الفقد والغياب، بما يعزز الطوابع الحوارية لبناء النص وتنامي فعل الصراع في مقاطع القصيدة ومن الراجح أن غياب يوسف في غياهب الجب، وغياب ذي النون في ظلام بطن الحوت يفيدان من التشارك المعرفي بين الكاتب والمتلقي للتعبير عن قلق اجتماعي ووطني وإنساني تحت وطأة ما يكابده الإنسان في محنة بلاده القاسية.
أما الثانية فهي تنويع مكونات رموز القصيدة وصورها الفنية كما يظهر جليا في القصيدة “سفينة بلا نوح” فصاحبها يوحي باستلهام القصة المروية عن امرئ القيس وسفره إلى قيصر الروم منتظرا مساعدته انتظار خائب، مشيرا إلى ذلك بأبياته التي قال فيها: “بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه/وأيقن أنا لاحقان بقيصرا”، يقول شاعر قصيدة “سفينة بلا نوح”، في بيت منها: وكم من غريب دق بابا لقيصر/ ولكنة في النجم قد علق الأنفا/ وإذا لاحظ المتابع أن هذه القصيدة جاءت على “البحر الطويل” تعزز لديه الشعور بوجود الاستلهام المشار إليه.
ومن نماذج تنوع هذا الاستلهام الفني في أبيات هذه القصيدة، قول صاحبها:”بلاد بلا نوح تعد سفنها/فيا ماء لا تقلق مجاديفها خوفا”، وهو نموذج تنتهي فيه الدلالات المتصلة بمكونه الرمزي –وهو شخصية نوح هنا – بين حدي البيت الشعري الواحد كما انتهت الدلالات المتصلة بشخصيتي امرئ القيس وقيصر في البيت الذي حمل استلهامهما، وهو ما يتكرر في غير موضع بمثل استلهامه شخصية محمود درويش في علاقته بالشام وحيفا، وتشبه ما كابدته، شخصية “يوسف” في قصته مع البئر وإخوته، يقول: “وللأرض يا درويش نوح سبيه/أما ذكتك الشام في حزنها حيفا”. أما الحالة الثالثة فتتجلى بوجود قصائد كادت ترجح الوظائف الوجدانية والإعلامية والفكرية للشعر في المقام الأول من مهامها، ومن أهمها بين القصائد المشاركة قصيدة “طائف الليل”فصاحبها يغني عاشق قيم الظفر على المكائد التي تكاد للأوطان غير هياب، متطلعا إلى يوم منشود، يردد صدى رؤاه بقوله:”يا قاسيون ضياء الياسمين رؤى/مدت جباها، وفجر النصر ينهمر”.
وحدة فكرية
عودة يوسف كانت في المقدمة قصيدة لها من النضج ما جعلها تتسع لأفكار الشاعرة ليندا إبراهيم فتراقص خيالها عبر استيحاء سيرة النبي يوسف فبنت عليها وأعادت إنتاجها بأشكال متعددة فجاءت القصيدة بأفكار جديدة وطريقة تناول مختلفة.
تقول الشاعرة إبراهيم:إن جائزة عمر أبو ريشة تحمل الكثير من الدلالات أولها اسم الشاعر وهو شاعر ترك بصمة مهمة في الأدب العربي فكانت روحه ترفرف فوقنا وثانيها المكان وهو سويداء القلب والتي عبرت بإطلاقها الجائزة عن وحدة الجغرافيا السورية فكريا وثقافيا واجتماعيا، وتأكيد منا نحن الشعراء على أهمية دورنا في النهوض بالبلد وتخليد رموزه ومواجهة الفكر المتطرف.
مواصلة الطريق
“عودة يوسف” للشاعرة ليندا إبراهيم من طرطوس حصلت على المركز الأول، تلاها مناصفة قصيدتي سفينة بلا نوح للشاعر عبد السلام محمد العبوسي من القامشلي ودفة مجداف وشراع في الظلام للشاعر حباب بدوي من حماة، أما المركز الثالث فكان لقصيدة طائف الليل للشاعر فايز عز الدين من السويداء.
رفعت الديك