الرواية الرقمية بين التجريب والتحديث
لا تزال الدهشة والغرابة في أي عمل فني هي الأفق المديد الذي تتطلع إليه أنظار من يتدبر صنعته، أو يغازل عشقه، لذا كانت الحداثة والتحديث هاجس وديدن من يخوض في غمار تلك اللجة الساحرة لأغوار العمل الفني، ومن أصيب بلوثة التجوال في بحورها القصية، فثمة من يكتفي منها بالبلل وثمة من يسبح وثمة من يغرق. وقد تتالت المدارس التي شكلت تاريخاً للفن الروائي بعد الاعتراف به دعامة أصيلة للأدب والفنون عامة. ولطالما انشغل المختصون واهتموا وبشكل مبالغ فيه بقارئ المستقبل ذاك المعاصر لعالم التكنولوجيا وعالم السرعة، الذي يتطلب منهم بالضرورة التعرف على قارئ الماضي الذي ترك لنا الرُقُم الأثرية والأبجديات الأولى التي أتاحت لنا السفر عبر الزمن واكتشاف أسراره والنفاذ إلى عوالمه.
ومافتئت الاجتهادات في اجتراح أشكال وأساليب في فنتازيا السرد وابتداع مسارب للنص تزاحم الفنون الأخرى في أدواتها ووسائلها، وليس آخرها ما اصطلح على تسميته بالرواية الرقمية، ومن ضمنها الرواية التفاعلية حيث يكون القارئ والكاتب في حالة التقاء مباشر على الشاشة بين ردود الأفعال واقتراحات مسارات السرد بمعنى الصيرورة المستمرة للعمل الفني التي لا تتحقق إلا عبر مناورات القارئ والتقاطاته لتشظيات الحكاية بلعبة متبادلة عبر تشويق عال لفتح الأبواب المغلقة والدخول في متاهة الأيقونات القابلة للفتح، التي تخفي وراءها بوابات جديدة منها إيضاحية، بتعبيرات سردية أو مشهد سينمائي مقتطع من أحد الأفلام أو الدخول بحوارية مفتوحة عبر الصوت والصورة والجرافيك من خلال وسائل التواصل وغرف المحادثة.
الوسوم الدلالية لما سمي بالرواية الرقمية تعيد للذاكرة بدايات تشكل الكتابة عند الإنسان الأول واكتشاف الرموز والعلامات للتعبير والتواصل وتوثيق الأحداث حيث حروف الأبجدية الرقمية هنا هي الصوت والصورة إضافة للسرد النصي ولكن تفترق هنا باستخدام الأدوات التقنية العالية لمهارات الحاسوب والمرور بغواية النقر والتنقل والوصل والفصل، حيث في كل نقرة أو حركة استدعاء لجزء من الذاكرة النصية بفانتزاتيك رفيع ضمن مجال المعلوماتية لطالما تشبه حكاية “أليس في بلد العجائب” حيث تدخل في نفق وكل بؤرة حكاية تقودك إلى حكاية تشابهها إلى حد ما لعبة الدمى الروسية «ماتريوشكا» حيث تخفي كل لعبة، لعبةً أصغر منها وهكذا إلى الأصغر فالأصغر.
فنيات التعبير المبتكرة لإخراج النص إلى شاشة الوعي المدرك بالحواس كافة لا تنفي ولا تكفي أهمية الولوج إلى تحديث المعنى وما المضمون الفكري للعمل الفني الذي يحاكي هواجس النفس البشرية وهمومها ومشاغلها، إلا أحد تجليات انسجام الشكل والمضمون في علاقة جدلية ولعل الدكتور محمد سناجلة قارب الفكرة بالإضاءة على الإشكالات النفسية للفرد الأعزل المستوحد في الحياة، الذي يعاني غربته عن محيطه وعمله وأسرته، والبرد الصقيعي المتحكم في أوصاله رغم الجو الحار نتيجة شعوره بالعزلة من خلال رصده لحالة عميقة في وجدان الإنسان بالتعبير الأعم لكينونته البشرية، في روايتيه الرقميتين المعنونتين بـ (شات) و(صقيع) على التتالي رغم أن الاسم الأول يوحي باستخدام الحشود الفيسبوكية لغرف المحادثة.
وإن كان فعل القراءة يضمر في طياته السفر عبر الزمن وتمثل للتاريخ والمعرفة عبر رؤية وتصور الراوي وشكل مراودته للصور التعبيرية ومقدرته على المزاوجة بين المخيال والواقع في سبك أفكاره، ففي رواية د. سناجلة الأخيرة “ظلال الواحد”-التاريخ السري لكموش رأيناه يأتي بشخوصه الملحمية من عمق التاريخ، تاريخ السيطرة والدم، مؤيدة بنصوص من الكتب المقدسة. يتناغم بين الصورة النابضة والنص للعبارات المسكوكة التي يدرجها على ألسنة الشخصيات ليصب أفكاره في هذا القالب المستحدث ولربما كانت الإشارات التوضيحية علامة هنة في العمل واستهانة بذكاء القارئ الذي يفترض به الدراية والمعرفة لإلمامه بمهارات الحاسوب من جهة وفضوله لفك ألغاز هذا الفن الجديد من جهة أخرى.
هل ثمة مخاوف من أن تصادر الرواية الرقمية خيال القارئ بالشكل التجسيدي للحوار والصوت والصورة؟ وهل يتطفل هذا الأسلوب على أدوات الفن السابع أم يستفيد منها ويوظفها.
الكثير من التساؤلات تطال هذا التوجه، وغيره من الفنون الأخرى التي تشكل نقاط استناد أساسية لهذا الصنف من الفنون.
الحقيقة إن كل تجربة جديدة ومختلفة تكون في بداياتها عرضة للرفض والاستهجان والإنكار آن بزوغها، ولم ينج أسلوب أو منهج من الانتقاد الصريح أو المضمر لتطلعاته.. ولكن ليس كل تجريب مؤسس لرؤية أو نهج حداثي في مجاله.. ربما تختمر الإرهاصات طويلا لتثبت نفسها كفن قائم بذاته.
هل نستطيع القول أن هذا التوجه نوع من عولمة الرواية؟ وإن كانت الصورة موحية إلى حد كبير وتختزل اللغة رغم أن السرد موجود بلغته كذلك، فالبلاغة الرقمية هي فن الإقناع في وسائل الإعلام الالكترونية المتعددة كلغة عمَّت العالم بأسره.
السؤال المتروكة الإجابة عنه للزمن، هو: هل السرد المتقطع ما بين مشهد سينمائي أو بؤرة توضيحية أو فسحة نصية أو انبثاق حوار على طرف النص الناتج عن لمسة شاشة أو نقرة ماوس هو تحديث لفن السرد أم جناية بحقه؟ وهل يعدُّ خروجاً عن مفهوم السرد أم هو رؤية حداثية؟
دعد ديب