ثقافة

“مارتن لوثر كينغ” يفتتح مهرجان إنتاجات السينما العالمية في دار الأوبرا

كثيرة هي الروايات والأفلام التي وصفت العبودية والاستغلال والعنف والاضطهاد والصراع اللامتناهي بين البيض والسود، و التضحية والأمل بالحرية والنجاة من الموت وقمع البيض، وقد جسد هذا الصراع فيلم “مارتن لوثر كينغ” -بتوقيع المخرج إفا دوفرتي-سيناريو بول ديب بالتعاون مع المخرج –الذي تمّ اختياره ليكون فيلم افتتاح الجزء الثاني من أفلام حديثة جداً المقام في دار الأوبرا.

يقوم الفيلم على حادثة تاريخية غيّرت حياة الزنوج الأمريكيين ومنحتهم حقّ التصويت في الانتخابات من خلال عرض جزء من حياة د. مارتن لوثر كينغ، ومن مسيرته النضالية ضد العنف والقمع، والوصول إلى الحلم المنشود بالحرية والمساواة والعدالة. فنلمح تقاطعاً ما مع فيلم “مانديلا” من حيث المضمون الإنساني ونضال الزنوج، وإن اختلف المكان والزمان ومصير المناضلَين اللذين أصبحا رمزاً من رموز الإنسانية.
انطلق المخرج من مقولة د.كينغ التاريخية “إننا نموت من أجل ما نؤمن به” فجسد بواقعية مدهشة الاضطهاد العنصري الذي عانى منه الزنوج، لتكون الهراوات الأداة الأكثر قسوةً، والتي أدت إلى موت كثيرين منهم، يحلمون بحياة أفضل لأولادهم، فابتعد المخرج عن”الفذلكات السينمائية” في تجسيد العنف اللاإنساني معتمداً على اللقطات القريبة والمشاهد الطويلة، لاسيما في الاشتباكات التي شهدها الجسر فوق النهر في ولاية ألاباما إحدى الولايات الجنوبية التي تعرض فيها الزنوج للأذى.
ورغم أن الفيلم مضى بسردية روائية محكمة الخطوط، إلا أن مفاجأة المخرج بإقحام مشاهد توثيقية تعرض صوراً حقيقية لمسير المظاهرة التاريخية التي قام بها الزنوج من سيلما إلى العاصمة مونتغموري جعلت الفيلم يتخذ الطابع الديكو-دراما.
الأمر اللافت هو إظهار المخرج دور رجال الدين وحضور الكنيسة، والتعاطف الإنساني من قبل الناشطين البيض مع الزنوج واشتراكهم معهم في المظاهرة، وقد أثّر المخرج على المشاهدين بالأجواء الحماسية التي أثارها د.كينغ –ديفيد أويلو- أثناء خطاباته التي وُصفت بالتاريخية لاسيما أنه قسّ، لتتوازى مع لقطات إنسانية خاصة بدت واضحة على ملامحه في مواقف معينة يصل فيها إلى حدّ البكاء بصمت. الملفت أيضاً الحضور الكبير للإعلامية أوبرا وينفري التي جسدت دور الناشطة آني، كما ركز المخرج أيضاً على الدور الفعّال للإعلام من خلال المتابعات المرئية وشخصية المراسل الصحفي الذي دوّن الأحداث. وزاد من تأثير الفيلم المؤثرات الصوتية والموسيقية وأغنيات الراب التي رافقت المشاهد، والتي اعتمد فيها على تقنية تضخيم الصوت في مشاهد الاشتباكات.

مراحل المظاهرة
بدأ الفيلم من حادثة تاريخية حدثت عام  1965  في عهد الرئيس الأمريكي جونسون في سيلما حينما اجتمع القادة الزنوج لحركة التحرر الإفريقية للانطلاق بالمظاهرة، التي تؤكد على رفضهم واقعهم إثر التمييز العنصري بين الزنوج والبيض في كل مناحي الحياة، ومنعهم من حق التصويت في الانتخابات، إضافة إلى ممارسة كل أساليب القمع والاضطهاد من قبل حاكم المقاطعة جورج والاس الأكثر قمعاً للزنوج، فيقرر كثير من الكبار والشباب المضي في المظاهرة، وهم يحملون أكياس الطعام، وفي منتصف الجسر تهاجمهم الشرطة على الأحصنة بإطلاق الرصاص والضرب المبرح بالهراوات، إضافة إلى استخدام الغاز المسيل للدموع فيموت كثير منهم، والمفارقة أن الملايين في مختلف القارات كانوا يتابعون عبْر شاشة التلفزيون الاشتباكات والقتل والعنف دون اعتراض، ليتوقف د.كينغ عند المفارقة المؤلمة فكيف ترسل أمريكا قواتها إلى فيتنام من أجل الإنسانية وتمارس كل أساليب العنف مع الزنوج على أرضها؟.

العلاقة بين كينغ وجونسون
المنعطف الآخر في الفيلم هو المحاولة الثانية للمظاهرة التي اشترك فيها رجال الدين والبيض في لحظة المواجهة مع الشرطة في منتصف الجسر، إذ يفاجئ د.كينغ الجميع حينما يصلي ويستدير ويقرر العودة، مما أثار حوله غضب القادة الزنوج، وعبْر المشاهد المتلاحقة، يسوّغ هذا التصرف بخوفه من الأخذ بالثأر لأن النفوس كانت محتقنة. في هذه المرحلة ركز المخرج على العلاقة التي تربط بين الرئيس جونس ود. كينغ، وعلى المفاوضات الهاتفية التي تتم بينهما والتي عمل فيها د.كينغ على إقناع الرئيس بعدم التعرض للزنوج للوصول إلى البرلمان ورفع القضية إلى المحكمة للموافقة على التصويت. المشهد الأكثر جدلاً ودلالةً كان حينما استدعى الرئيس الأمريكي جونسون حاكم المقاطعة جورج والاس، واتخذ النقاش بينهما طابع المساءلة الموجهة للحاكم لقمعه واضطهاده الزنوج ورفضه منحهم الحق بالتصويت، مسوغاً ذلك بأنه يمنحهم المطالبة بمزيد من الحقوق، تطال العمل والتعليم والتربية.
الخطاب التاريخي
وبعد مراحل من الجدال والنضال يتمكن د. كينغ من الموافقة على الوصول الآمن إلى مونتغيموري، فتمضي المظاهرة التاريخية التي جمعت بين الزنوج والبيض في مشاهد متداخلة بين التمثيلية والحقيقية تظهر مسير المظاهرة فوق الجسر والخيام التي استراح فيها المتظاهرون وتوزيع الطعام، وتجمع الآلاف لدعم المتظاهرين. ليتحقق حلم د.كينغ ويصل إلى البرلمان ويعتلي المنصة ويطالب بحماية الإنسانية ليس فقط الزنوج وإنما حماية البيض البسطاء والفقراء، ويطالب بالمساواة بين البيض والزنوج، وبأن يلتزم العالم بحقيقة أن الناس متساوون، وبأن يسود قانون الحبّ بدلاً من الكراهية، ليسدل الستار على المشهد الأخير في السرد التاريخي للأحداث إذ تمّ اغتيال د. كينغ الذي كان واحداً من أهم المناضلين في العالم من قبل أحد البيض المتشددين بعد ثلاث سنوات على الحادثة التاريخية، وفوزهم بمنحهم الحق بالتصويت للانتخابات الفيدرالية والرئاسية والمحلية، وتبقى زوجته كوريتا دون زواج متفرغة لتربية أولادهما الأربعة، في حين يسقط الحاكم جورج والاس بالترشح لانتخابات الرئاسة الأمريكية أربع مرات ويتم اغتياله.
ويبقى هذا الفيلم الذي حصل على جوائز عديدة وثيقة تسطر جزءاً من حياة د. كينغ ونضال الزنوج.
ملده شويكاني