ثقافة

قراءة في مسرح العبث.. (في انتظار غودو) نموذجا”

يتميز مسرح العبث بأنه نتاج ظروف سياسية وعالمية كبرى أدّت بالفلاسفة المتميزين إلى التفكير في الثوابت. والعبثيون هم مجموعة من الأدباء المحدثين والطليعيين الذين تأثّروا بنتائج الحروب العالمية المدمّرة، والويلات والدمار المادي الذي طال أوروبا كلها، فرأوا أن جميع النتائج التي نجمت عن تلك الحروب هي سلبية أو نفسية سيطر عليها انعدام الثقة بالآخرين، فكان انعزال الإنسان الأوربي وفرديته. الأمر الذي أدى إلى ظهور مفهوم جديد في المسرح المعاصر أُطلق عليه مسرح “العبث” قدّم نمطاً جديداً من الدراما المتمردة على الواقع, وجّدد في شكل المسرحية ومضمونها.

وبرز كاتجاه جديد يسعى إلى التجديد والتخلص من العالم البرجوازي، ومن الحضارة الآلية الجديدة في محاولة لوضع تفسير جديد للإنسان المعاصر وانتشاله من تفسخ الأنظمة والقوانين التي تربطه بها صلات متعددة.
ظهر مسرح العبث في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين, وتحديداً عام 1953 عندما كتب صموئيل بكيت مسرحية سماها (في انتظار غودو) اتسمت بغموض الفكرة وعدم وجود عقدة تقليدية, وانعدام الحل لما عرضته المسرحية، فكانت رمزية مبهمة للغاية ولوحظ قلة عدد المسرحيين الذين مثلّوها وكان الزمان والمكان محدودين تقريباً وتركت المسرحية الكثير من الحديث والجدل، والسؤال عن غودو: من هو؟ هل سيصل؟ متى سيصل؟ ماذا  سيفعل أو يقّدم؟ وحتى هذه اللحظة فإن الجدل السائد بين النقاد هو أن غودو لن يصل.
لقد ترك بيكيت خلفه ظاهرة أدبية وفنية مهمة ومؤّثرة ومثيرة للجدل اسمها “العبث”, ثارت على كل ما هو مألوف دون الاهتمام بعامل الزمن، ولم يكن العبثيون في واقع أمرهم مدرسة أو جماعة، إنما مجموعة من المفكرين والكتاب غلبت على مشاعرهم وأحاسيسهم صفات تشابهت وظهرت في كل كتاباتهم الأدبية، خاصة المسرحية منها. وقد جاء تمرد العبثيين على المدرسة التقليدية العريقة التي أرسى قواعدها أرسطو حينما وضع أسس النقد الأدبي للمسرحية الجيدة، وحدد عناصر نجاحها في ثلاثة أمور هي: الزمان والمكان والحدث.
بدورهم العبثيون ضربوا عرض الحائط بأرسطو وكتاباته ومنهجه وكل تاريخ المسرح, فتنكروا للعناصر الثلاثة المذكورة, وقرّروا أن تكون كتاباتهم في مكان محدود جداً كشجرة (مسرحية في انتظار غودو) أو كغرفة (مشرفة الغرفة) أو كرسي (كمسرحية الكراسي) وجعلوا عنصر الزمن غير ذي أهمية تذكر، أما العقدة أو الحدث فلم يجعلوا لها وجوداً في مسرحياتهم. وإضافة إلى ذلك فقد عادوا بمسرحية الفصل الواحد والعدد المحدود من الشخصيات.
أهم ما في مسرح العبث بعيداً عن الزمان والمكان والحبكة هو الحوار, لكن ذلك الحوار كان غامضاً مبهماً مبتوراً تعوزه الموضوعية والترابط والتجانس. كل شخوص المسرحية تتحدث دون أن يتمكن أحد منهم من فهم الآخر, ولا من توصيل رسالة للآخر, الحوار دائماً مبتور ولا تستطيع الشخصيات توصيل رسائلها, وقد بالغ كتاب العبث، فجعلوا بعض الشخصيات تتكلم ربما كلمة أو كلمتين عند نهاية المسرحية تلخص السخط العام والغضب الشديد.
في مسرح العبث دور المرأة يكون دوماً أقل أهمية من دور الرجل، وتكون أكثر كآبة  من الرجل لما تعانيه من اضطهاد اجتماعي. كما أن اللغة فيها تكرار في الموقف الواحد، وهذا التراكم الكمي من الأسباب يعطي مدلولات واضحة للخوف وعدم الطمأنينة, والقلق الدائم, تلك العناصر التي تؤدي إلى غياب التفريق بين الوهم و الحقيقة, وتؤدي أيضاً إلى عدم ثقة الشخصيات في المسرحية ببعضها البعض, كما تبين بما لا يدع مجالاً للشك غياب الحلول الفعلية لمشاكل كثيرة, وعدم القدرة على مواجهة الأمر الواقع، مع حيرة مستمرة وقلق متواصل وخوف متجدد من ماهية المستقبل وكيف سيكون.
مسرح “العبث” حركة قامت انعكاساً لواقع معين, لذلك فان بقاءه مشروط بوجود المّبرر الموضوعي له, والعبثية المزعومة وغياب المعنى الحقيقي للواقع الآلي المتكرر، ومعنى الوضعية البشرية  الذي يتغلف بالإحساس بالعزلة, هذا المبرر الموضوعي جعل كتاب مسرح اللامعقول من أمثال صاموئيل بيكيت ويوجين يونيسكو وآرثر وارتو ادموف وجان جينيه وجورج شحاته وغيرهم، يرفضون الأسس الثقافية والسياسية للعالم البرجوازي: عالم الحروب والمنافسات الدموية والمجد الكاذب وسيطرة الاستياء وشحوب الروح والعقل، وانسحاق فردية الإنسان في مواجهة المؤسسات القوية التي تقوم بوظائف الحكم والاستثمار ،وتغذية أرواح الناس وعقولهم بالخرافات أو الثقافات الكاذبة، وتجنيدهم للدفاع عن مكاسب المؤسسات غير الإنسانية, فقدم مسرح العبث صورة أكثر صدقاً للواقع من خلال استخدام الصورة الشعرية، لما تتسم به من غموض، وتداخل الصور الجزئية وافتراض الاستياء في غير موضعها، لتجرد الواقع من إطار المألوف باستعمالهم أسلوب التهكم والسخرية, كونه موقفاً أخلاقياً معبّراً عنه بالتجرد مستعيناً بالحكم الذي هو أحد أساليب اللامعقول للنزول إلى أعماق النفس البشرية، ومعظم الموضوعات التي يركزّون عليها في مسرحياتهم كانت تتخذ من القلق أشكالاً خيالية وأسطورية عند شخصيات هذا المسرح, وعادة ما تنتهي المسرحية عندما تبلغ التساؤلات الميتافيزيقية عن الإنسان والزمن والحياة والموت ذروتها, وكونهم لمحوا العجز التعبيري للأشكال الفنية والأدبية التي كانت تخضع إلى قوالب القيم والمفاهيم الاجتماعية، لذا ركزّوا اهتمامهم على الذات والخيال الإنساني، إلا انه يعاني من فرديته وانعزاليته نتيجة لعدم قدرته على بناء علاقات إنسانية اجتماعية أساسية ورصينة مع الآخرين. وأهم ما قدمه هذا اللون الجديد من الدراما هو دراسة نفسية وفكرية لأوروبا الحديثة وانعزالية الإنسان فيها.
إبراهيم أحمد