ثقافة

تبايـــن الـــرؤى

سلوى عباس

ضمن مفهوم قتل الأب ورفض الوصاية نقرأ حالة صراع يعيشها جيل يبحث عن الاعتراف بوجوده والتحرر من وصاية الرواد، خاصة أن ما يميز الرواية الجديدة سواء السورية أم العربية هو فكرة البحث عن الذات واعتبارها موضوعاً مكتملاً بكليته، بعيداً عن الأيديولوجيات أو حكايات من خارج النص، وعنايتها بهذه الذات وبالحياة بشكل عام، وهذا ما ينطبق على الكتابة عموماً، فنحن جميعنا نكتب على قدر معرفتنا بالحياة وعلاقتنا معها، وأسئلة الوجود والذات هي التي تحكم النص الروائي السوري.
بالمقابل هناك من الأدباء من يرون أن الساحة الروائية تعاني من الفراغ، وجيل الروائيين الشباب لم يجدوا مكانهم حتى الآن لأسباب عديدة منها أنهم لم يأخذوا فرصتهم، دون تعميم هذا الرأي، لأن هناك من أخذوا فرصتهم وأكثر، والغالبية لم يتح لهم النشر، مع تأكيدهم على أن الجيل القديم لم يبخل عليهم بالفرصة، ولم يكن حجر عثرة أمامهم، بل مشكلتهم مع أبناء جيلهم، حيث التنافس الأعمى يسيء إليهم وإلى أعمالهم، فبعضهم مغرم بأن يكون الأهم والأول والفريد من نوعه في عالم الرواية ويلعب دور المُنظر والرائد، لكنهم ينسون أن عالم الرواية يتسع للكثيرين، فهو لا يعاني من التخمة، ومن السخف اختزاله بواحد أو اثنين.
ومن وجهة نظر هؤلاء أن ما يدعى بالكتابة الروائية الجديدة والتي يمثلها الجيل الشاب (إذا اعتمدنا تصنيف الأجيال) ماهي إلا محاولات مستمرة لفعل شيء ما، وقد لا تعدو أن تكون تقليداً لمن سبقهم، أو لما يرد إلينا من الخارج. إنها بدايات قد تكبو أو تنتج أعمالاً ممتازة، هذه الانقلابات الجذرية، ليست غير مزاعم يرفعها كل جيل جديد، وكأنه يثبت مشروعية تواجده بشكل متميز على الساحة الأدبية.
وكنت قد سألت أحد أدبائنا من رواد الرواية السورية والعربية كيف يتعامل مع هذه الإبداعات كجيل مختلف، فأجابني بكثير من التواضع والثقة:
“غالباً ما نسمع لغطاً حول ما يسمى بالقطيعة وبالرواية الجديدة، وقد سألت بعض الذين علَت أصواتهم حول هذه الأفكار عن معالم هذه الرواية الجديدة التي يقال أنها تتخطى ما أنتجه السابقون، ما إذا كانت هذه الطروحات تتجسد في رواية كتبها روائي في السبعين من عمره، أو تكتبها فتاة بعمر الثلاثين، فعن أي قطيعة يتحدثون؟”. بالمقابل -يتابع أديبنا- هذا لايعني أن تاريخ الإبداع لا يشهد من حين إلى آخر قطيعة ما، لكنها القطيعة التي تستوعب الماضي وتتجاوزه، وهناك الكثير من الأصوات الشابة التي سعدت بقراءة نتاجها وتعلمت منها أيضا، فالفن الجميل يفعل فعله بالروح، وأنا أسلم روحي بحرية له، ولتذهب للجحيم مسألة صراع الأجيال وصراع الآباء والأبناء، فالاستمرار أصعب بكثير من الالتماعة الأولى التي يمكن أن تحمل موهبة طازجة، وذائقة مرنة لم تستعبدها القراءات السابقة، وغير مأخوذة بأسلوب معين، وتحافظ على براءتها ودهشتها، لكن لابد من العمل والتعب والتواضع أيضا، فالغرور مقتل للأصوات الجديدة سواء في المقابلات الصحفية أو التلفزيونية أو الجوائز أو الشهرة، وكثيرة هي الأسماء التي يصيبها العماء والطرش مباشرة لكن الخرس لا يصيبها، بل تستمر بالثرثرة حتى تطغى على الإبداع الحقيقي”.
والمفارقة أن مانراه لدى الجيل الجديد من رفض لوصاية الكبار في مجال الأدب، نرى الحالة مغايرة في باقي الفنون ففي المسرح مثلاً، هناك عدد من الأكاديميين يعزون الأزمة التي تعاني منها الكتابة المسرحية للفراغ الذي تركه المؤسسون ولم يملأه الكتّاب الجدد، حيث يرون أن المؤسسين طرحوا هوية المسرح، بينما الجدد يغرقون في المشاكل الخاصة، كما أنهم لا يتابعون مشروعاً وكأنهم بلا آباء. فتتطابق رؤية هؤلاء الأكاديميين المسرحيين مع رؤية المخضرمين في الأدب والفنون بأن الجيل الجديد فاقد الأب، وفاقد الأنموذج والمرجعية من الماضي الذي يُفترض أن يتكئ عليه، وهذا الأمر قد يشكّل أحد أهم صعوبات الكتابة سواء في المسرح أم في الأدب.