ثقافة

جمعتهم الكلمة.. وبوح الرحيل

غريب هذا الفقد الذي يجمعه شهر آب من الأدباء والمبدعين العرب، فيبدو الأمر وكأنهم متفقون على حزم أمتعتهم والرحيل، كما جمعتهم الكلمة والبوح الإنساني،  فبالأمس مرت ذكرى رحيل الشاعر محمود درويش، ففي مثل هذا اليوم من عام 2008 تعب وخانه قلبه، وهو الذي بشّر بكثير من الفرح، رحل بوقت لم يكن لانكسار الشعر ووهن القلوب، وهو الذي لم يكن يوماً قاسياً إلا في غيابه، ولم يكن بخيلاً إلا عندما حرم عشاقه من حضوره، وهو الذي بقي بين حضوره وغيابه محمود درويش الذي اجتاح قلوبنا، واستقر في عقولنا بشعره وثقافته الواسعة، فمنذ وعى الحياة وهو يناضل بشعره وقلمه في قضايا أمته وحقها في الحياة الحرة الكريمة.

محمود درويش الذي رحل وترك ساحة الشعر خاوية، هل فكر حين رفع مرساة الرحيل من سيراقص بعده الشعر على شفتي القارئ؟ ومن يداعب اللغة ويصنع المفردات باقة من ورد، ومن لديه أسلوبه في صياغة القصيدة، هو الذي  أمتعتنا بشعره، وعلّمنا كيف نقرأ وماذا نقرأ، وبرحيله سقط القلم، ومات الرحيق في المعنى، وفقدت العبارات ألقها..

العشق الأول
أيضاً صادفت أمس ذكرى رحيل الشاعر سليمان العيسى.. الذي سخّر لسورية كل إبداعه، وأحبها بكل جوارحه، فكانت عشقه الأول الذي ظل يتغنى به حتى آخر لحظة في حياته، فقد آمن بها بلداً قوياً ومنيعاً على الأعداء، وبالرغم من كل شيء ظل يردد أنها بخير، متوسماً بشبابها الذين يذكّرونه بشبابه وأيام النضال، ولم ينس أنهم حرصوا على سورية الوطن، وحافظوا على سيادتها حرة أبية، هذا الحلم الذي رافقه وسكن روحه منذ اللحظة التي وعى فيها معنى أن يكون عربياً.
في مثل هذا اليوم من عام 2013 وبعد سبات استمر طويلاً توقف القلب المرهف عن النبض دون كلمة وداع، دفعة واحدة توقف ينبوع الشاعر عن البوح والوجد والحياة، فكان فقده خسارة لوطن يعوّل على أبنائه بناء المستقبل الواعد للأجيال القادمة، لكن هو القدر يطلق حكمه دون أن يسمح بكلمة تبقى ذكرى قبل الرحيل.

شاعر الغربة والمنفى
في الثالث من آب عام 1999امتطى الشاعر عبد الوهاب البياتي صهوة الرحيل بعد أن عاش حياته في ساحات التمرد والتحدي عبر ترانيم الشعر، يحمل وطنه في ذاكرته جرحاً نازفاً وحلماً مستباحاً، لذلك نراه يحمل غربته معه أينما حلّ، حتى أصبحت سمة من سماته، وتمكنت منه حتى صارت الوطن، إذ لم تكن تجربة البياتي غربة الجسد عن الوطن بل غربة الروح عن الكون بكل مافيه من مفارقات وتناقضات ولذلك نراه منفياً دائماً مواطناً يعيش بدون وطن، وظل طوال حياته يدق أبواب مدينته وأبواب مدن العالم بحثاً عن المدينة الفاضلة والإنسان الأمثل والغد الأفضل، ويقول في هذا: لم تأخذ الغربة ولا المنفى مني شيئاً بل منحاني الحصانة ضد التفاهة والعدمية والمجانية، كما جعلت من قصائدي شعلة زرقاء ووردة حمراء أقدّمها إلى قرائي كلما حان موسم الأزهار والربيع، ولقد نبتت هذه الزهرة في حقول العالم، وانبعثت في ربيع الشعوب التي طال انتظارها للمعجزة الإنسانية التي تضع حداً لعذاباتها الأبدية” لذلك كله يبقى عبد الوهاب البياتي شاعراً له نكهة مختلفة، الكلمة عنده سلاح للتعبير عن هموم الشعب والوطن المستحم دائماً بماء القهر والظلم.

لا إكراه في الرأي
وكم غريب أن يصادف تاريخ الميلاد وتاريخ الوفاة في الشهر ذاته، ففي الخامس عشر من آب عام 1936 ولد الأديب الجزائري الطاهر وطار، ورحل عن دنيانا في 12 آب عام 2010، وقد حظي بشهرة واسعة، عربياً وعالمياً، كما ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات الحية، منها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية والبرتغالية والفيتنامية واليونانية والأوزبكستانية والآذرية.
في نهاية الثمنينيات أسس الطاهروطّار الجمعية الجاحظية، وتفرغ في السنوات الأخيرة من حياته للعمل الثقافي ضمن هذا المشروع الذي كان يسعى إلى أن يكون منبراً للحوار بين جميع أطياف الثقافة الجزائرية.
ولم يقتصر نشاط الطاهر وطار على المجال الأدبي، بل كان مشاركاً بشكل دائم في النقاش العام حول القضايا السياسية والاجتماعية والفكرية في بلاده، وفي العالم العربي.. ودخل في سجالات مع أطراف عدة. وفي سنواته الأخيرة رفع شعاره المتميز: “لا إكراه في الرأي”. وقد تحدث عنه المفكر أمين الزاوي فقال: “إن وطار هو ابن النظام ولكنه كان دائما في هذه العلاقة على سجال واختلاف مع النظام، فاختلف مع الرئيس هواري بومدين فكتب رواية “الزلزال” في نقد مشروع الثورة الزراعية في السبعينات، واختلف مع الحزب الذي انتمى إليه أي حزب جبهة التحرير الوطني حينما كتب رواية “الزنجية والضابط”، وأعتقد أن الذين اختلفوا معه كانوا يحترمونه لأنه كان يحمل حاسة النقد دائماً، وكتب الطاهر وطار عن الإسلاميين وكان له موقف خاص منهم، وكان عروبياً دافع بشكل شرس عن موقع اللغة العربية في الجزائر دون أن يعني أنه كان ضد اللغة الفرنسية”.

شاعر الحداثة
في 14 آب من عام 1981 رحل الشاعر صلاح عبد الصبور الذي كان من شعراء الحداثة حيث أعلن تمرده على الشعر التقليدي في مصر وسرعان ما تمثل نهجه شعراء آخرون مثل عبد المعطي حجازي وأمل دنقل. ومع أن حياته كانت قصيرة إذ امتدت من عام 1931 لغاية 1981 إلا أنه سجل خلالها تاريخاً شعرياً ينضح بالمعاناة الإنسانية، وقد كان لأدبه لغة شعرية مميزة، وأسلوباً خاصاً، فقد عالج في شعره قضايا حياتية معاشة، انطلق من الهم الذاتي إلى هموم الحياة العامة، فعمل على تعرية المجتمع وكشف جوانبه السلبية والفساد فيه من خلال شعره، وقد تضمنت أولى مجموعاته الصادرة عام 1975 التي حملت عنوان: “الناس في بلادي” هذه المكاشفات، ويصور فيها حياة الناس تصويراً واقعياً مباشراً بنغمة تحمل الكثير من ملامح الحزن والأسى.
أما فلسفته تجاه الوجود فيختصرها بالقول: إن الوجود هو المعطى الأول للإنسان دون شك، لكن الحياة لاتتوقف حتى يبحث الإنسان عن السبب ولابد له أن يبتلع أحياناً سؤاله عن سبب الوجود لكي يسأل نفسه عن غاية الوجود، فالإنسان يعرف أن لكل شيء غاية لأنه الحيوان الوحيد الذي يستطيع أن يربط بين المقدمات والنتائج، ومما لاشك فيه أن الموت نفي للحياة، والموت العام مثل موت الحضارات، نفي عام للحياة.

شاعر كلاسيكي
في 15 آب من عام 2013 رحل الشاعر  رضا رجب وهو شاعر كلاسيكي يضمّن المعاصرة في شعره العمودي، تبدو موهبته واضحة عبر تدفق اللغة في شعره، يقول عنه ابنه عامر عبر موقع مدونة وطن:
“لم يكن يشغله عن هاجس الشعر شيء حيث استهواه منذ الصغر، فقد كان البيت الّذي تربى فيه والدي بيت تقى ودين وأدب، كان حاله حال الآخرين فقراء يعيشون في الجّبال على أبسط مقوّمات الحياة، لكنه كان منفتحاً على الحياة بشكلٍ مبكّر، حتّى قرّر أن يدرس ويتعلّم على الرّغم من صعوبة الظّروف، كانت “عنّاب”- وهي مسقط رأس الشاعر- ملهمته الأولى فأوّل كتاباته كانت عن جمالها وحسن صباياها، وقصص العشق فيها ومرارة الفقر الّذي لم ينتزع الحلاوة والطّيبة من قلوب ساكنيها، كانت حياته مكرّسةً للأدب والفكر بكلِّ معنى الكلمة، ليس في وقته بقيّةٌ لشيء آخر. أنجز ثلاثة دواوين شعر وهو يصارع الموت –يتابع ابنه- حتّى إنّه توفّي قبل أن ينشر كلَّ ما كتب، كما ترك مكتبة ضخمة فيها من كلِّ علوم الأدب».
قصة شعب ووطن
وفي 19 آب عام 1981 أوقف الشاعر بدوي الجبل بوح قلبه ليترك لنا تاريخاً من الأدب والشعر يمتد لأجيال وأجيال، ولعل خير ما يعبر عن أدبه وتأثيره على مسيرة الأدب ما يقوله أدونيس فيه: «هل كتب وزناً؟ هل كتب نثراً، ما أشكاله؟ أسئلة تتراجع لتحل محلها أسئلة أخرى: ما الرسالة التي أعطاها؟ ما المعنى الذي أسسه؟ ما الأفق الذي افتتحه؟ ويكون الشاعر شاعراً بقدر ما يتيح لنا شعره الدخول إلى هذه اللجة، في هذا ما يؤسس عظمة بدوي الجبل. فأنت سواء أكنت شعرياً معه، أو ضده، لا تقدر إلا أن تشهد لدوره الكبير ومفارقته الإبداعية. لقد ختم تاريخاً شعرياً بكامله، وهو في الوقت نفسه، وبالقوة نفسها، يفتح للشعر العربي أن ينعطف، فيبدأ بنبض آخر، تاريخاً آخر». وليس غريباً أن نسمع الدارسين لشعره يصرحون «الكلاسيكية الحية وقفت عند شاعرنا البدوي لا تجد بعده من يحملها وإليه انتهت».

القصيدة الرمز
وفي اليوم ذاته من عام 2014 غادر الشاعر سميح القاسم مملكة الشعر ليلحق بقامات شعرية اختطفها الموت في غفلة الحياة.. أعطى القاسم الشعر نداوة روحه وعمره، فشكلت قصيدته شجرة وارفة الحياة، وحالة عطاء لاتنضب، قصيدة خلّدته رمزاً للمقاومة لتصبح الكلمة رئته التي يتنفس منها الحياة، يشهرها سلاحاً في وجه هذا القبح الذي يتطاول على كل ما هو جميل في الحياة.. فكان يلوّن قصائده بأزاهير الحب وينسج خميلة انتمائه على روحها ألقاً يعيش لحظاته على وقع نبضها، فتسبقه وتسبق الزمن الأرضي إلى زمن من نضال وإبداع، فشكّل شعره حالة ثقافية على التوازي مع تجربته النضالية والسياسية.
لقد أرّق الوجع الشاعر القاسم، فغادرنا وجرح يقضّ قلبه على وطن عشقه وشغف به، وطن يُعاني ما يعانيه من النزف والألم، هذا الوطن الذي رسمه القاسم حلماً من حب تجلّى في أبهى حالاته، ارتسمت حوله تطلعاته وأمانيه، فحمله في وجدانه أمانة، كان الحافظ الأمين لها حتى آخر لحظة في حياته، دون أن يتخلّى عن إيقاع قصيدته التي حملت القضية الفلسطينية إلى العالم بأسره لتصبح جزءاً من ضمير هذا العالم كقضية شعب مكافح يحمل السلاح بيد والكلمة بيد أخرى.

رفيق الصبان
والمفارقة الأغرب أن يصادف الميلاد والرحيل بتاريخ واحد ففي 17 آب من عام 1931 ولد الناقد السينمائي د. رفيق الصبان، وكان رحيله في 17 آب 2013 وقد كان  ناقداً متمرساً وكاتب سيناريو لامعاً، يجيد لغات عدة ويتمتع بثقافة سينمائية واسعة، وسبق له أن بدأ ينشر مقالاته في المجلات المصرية منذ السبعينيات، وكان يطمح إلى أن يجد نقده تأثيراً “لا حد له في الكشف عن العيوب وإظهار المحاسن وتوجيه النظر وتعبيد الطرق”.

ضمير الأمة
أما الشهيد الفنان ناجي العلي فقد تم اغتياله في 22 تموز عام 1987  ودخل في غيبوبة إلى أن استشهد في 29 آب من العام ذاته، كانت أعماله عبارة عن لوحات ومشاهد شملت الجوانب القومية والإنسانية عبّر عنها بشاعرية تمتزج بالألم والأمل، فما من ومضة تضيء فكرة وتحمل هماً مشتركاً إلا وعمل على إيصال نورها إلى العالم القريب أو البعيد منه، فالفكرة كانت الهدف والغاية، والفن هو الوسيلة لإيصالها، وهذا كان الرابط لديه بين الرسم والكلمة. صوّر فلسطين والبيوت والأسلاك المحيطة بها، وجسّد في لوحاته تجذر أبناء فلسطين في أرضهم وجباههم مرفوعة لتطاول الأفق. ولم يكن يملك سلاحاً سوى ريشته وتلك الأفكار التي ينتقد فيها الواقع بكل معطياته، والتي ضمنها رسومه الكاريكاتورية، وقد عبر فيها بصدق عن موقف المواطن العربي بشكل عام والفلسطيني بشكل خاص تجاه الأحداث التي يعيشها الوطن العربي. وبقيت أعماله ورسومه شاهدة على تاريخه النضالي والبطولي، ونبراساً ينير للجيل المقاوم طريق البطولة والفداء.
وكان حنظلة وصية ناجي العلي الأخيرة الذي وصفه بشاهد العصر الذي لايموت.. الشاهد الذي دخل الحياة عنوة ولن يغادرها أبداً.. الشاهد الأسطورة، الشخصية غير القابلة للموت، ولدت لتحيا، وتحدت لتستمر، هذا المخلوق الذي ابتدعته لن ينتهي من بعدي، بالتأكيد  وربما لا أبالغ إذا قلت إني قد أستمر به بعد موتي..) ونحن نؤكد هذه المقولة بأن حنظلة هو ضمير أمتنا الحي وصوت البراءة الطفولية الذي لا يهادن، بل يعطى الأشياء ألوانها ومسمياتها الحقيقية.
سلوى عباس