ثقافة

نديم محمد.. شاعر العناكب والألم في حشرجة الاحتضار كتب آخر أبياته:

“سيذكرني غداً أهلي كثيرا ويسأل بعضهم عنّي طويلا فلن يجدوا.. وإن راحوا وجاؤوا.. ولن يهدوا إلى عندي سبيلا” .

في حين قال الأديب د.طه حسين في مؤتمر الأدباء العرب في بلودان عن ديوانه “آلام”: “لو لم يكن لهذا الشاعر إلا هذا الديوان فحريٌّ بالشعر العربي أن يضمه إلى فحوله الكبار” أما هو فقال عن نفسه: “عشتُ وفياً منصِفاً للجار والصديق والقريب، ولكنني لم أُنصَف من أحد، فلا أريد من الدنيا إلا أن تتركني كما أنا”.. إنه الشاعر نديم محمد الذي كان عنواناً لندوة الأربعاء التي أقيمت مؤخراً في مكتبة الأسد بدمشق بمشاركة د.محمد رضوان الداية والأديب مالك صقور ود.رياض العوابدة ..

الشاعرية الحقة

بيّن د.إسماعيل مروة المشرف على الندوة أن الشاعر نديم محمد مثال صارخ عن الشاعرية الحقة التي وإن بقيت تعيش في الأطراف، إلا أنها استطاعت أن تصل للمركز، وهو وإن غادر في فترة من الفترات سورية في رحلة علمية، لكنه اختار أن يكون مستقره ومقامه في مدينته جبلة، لذلك استطاع أن يؤكد أن الشاعر الحق لا يقف عند الحواجز، فهو وإن لم يعش في دمشق، إلا أنه استطاع أن يكون شعره مؤثراً ومحطَّ إعجاب وتقدير، ولا أدل على ذلك إلا ما قاله طه حسين عندما وصف أحد دواوينه قائلاً: “قرأتُ لشاعر اسمه نديم محمد وهو شاعر كبير ومهم في سورية”.

وأكد د.مروة: علينا أن ندرك أن الظلم الذي وقع على نديم محمد وقع على الأدب السوري الحديث، لأنه لم يلقَ الاهتمام المناسب على الرغم من أن شعره يستحق أن تقام له الندوات وتقدَّم حوله الأطروحات ورسائل الماجستير، وبيّن مروة أنه ليس صحيحاً ما وصِفَ به بأنه شاعر الألم فقط، وهو اختار لندوته عنوان “نديم محمد شاعر العناكب والألم” لأنها أسماء لعناوين دواوينه، وأشار إلى أنه شاعر ثائر من الدرجة الأولى، وشاعر من الطبقة العليا التي قلّما يستطيع أحد أن يجاريها، وعبّر عن العروبة تعبيراً حقاً وهو الذي لم يخرج شعره خارج إطار الشاعرية العربية رغم سفره إلى باريس ودراسته فيها، وجدد في الأوزان والقوافي والبحور والتفعيلات وبقي يغنّي للأرض والإنسان، وحسبه أنه عبَّر عن ضائقته الكبرى في حياته وهي ظاهرة الفساد.

 

أهم شعراء القرن العشرين

ووصف الأديب مالك صقور نديم محمد بأنه من أهم شعراء القرن العشرين وهو شاعر وطني وقومي ووجداني بامتياز، ولكنه بقي بعيداً عن الأضواء لأنه اعتزل وزهد واعتكف، وأشار وهو الذي عاشر نديم محمد وعرفه عن قرب وله كتاب عنه لم يُنشَر بعد، أنه اختار الحديث عن نديم محمد وعصره  لسببين، أولهما أنه اشتغل بالسياسة وأخفق، والثاني لخيباته القومية، وبالتالي فالحديث عنه يتطلب العودة إلى القرن الماضي لأنه ولِدَ في العقد الأول منه وغادر حياتنا في العقد الأخير منه، وبيّن أن نديم محمد المتذمر والملول والساخر والساخط والناقد والناقم والقلِق والمتناقض والمضطرب والصادق والصريح والشفاف والمتمرد، من أهم شعراء القرن العشرين، ليس في سورية بل وفي الوطن العربي، والشعر الذي كتبه بدمِ قلبه خلال السبعين عاماً  يشهد على ذلك، ومن المغري للباحث والقارئ أن يطوف في بستان نديم محمد الوارف المثمِر الناضج ودخول عالمه الشعري الفسيح والوقوف عند موضوعاته الثرّة وقيمه الجمالية والفنية، وأغراضه الشعرية الفنية الغنية المتنوعة من شعر وجداني وقومي وغزَل ومديح ووصف وهجاء وعتاب، وبالتالي رأى صقور أن الحديث عن نديم محمد هو الحديث عن أحداث كثيرة عاصرها وعايشها وتأثر بها وعكسها شعراً منذ يفاعته وحتى وفاته، وأوضح صقور أنه ولِدَ والبلاد ترزح تحت هيمنة الاحتلال العثماني، ووعى الحياةَ مع صدى الثورة العربية الكبرى وتفتَّح وعيه على صوت الطلقة الأولى التي أطلقها الشيخ صالح العلي في وجه الاحتلال الفرنسي، وكبر وترعرع والبلاد تنتقل من تحت النير العثماني إلى نير المستعمر الفرنسي ونضج في مرحلة الاستقلال وما تلاها، وهذا برأي صقور يكفي ليعبِّر نديم محمد شعراً ونثراً عن حال البلاد آنذاك في كل مرحلة من هذه المراحل، متوقفاً صقور عند طفولة محمد عندما أصبح عمره 11 سنة، حيث بدأ يكتب الشعر، إذ تفتحت موهبته مبكراً في كتابة الشعر، وقد تمرد فيه رغم حداثة عمره على المتشددين، وما كتبه في تلك الفترة مؤشر على شخصية محمد المتمردة على الأعراف والتقاليد السيئة والعقلية التي كانت سائدة آنذاك، وقد تعرَّض بسبب هذه القصائد التي كتبها لهدرِ دمه من قِبل المشايخ وللّعن والذم، ففرَّ من قريته واختبأ لحين هدوء العاصفة، وأوضح صقور أن ما كتبه محمد آنذاك يؤكد على شخصيته القوية والمتمردة التي لازمته حتى مماته.

في مرحلة أخرى ولأن أباه كان غنياً أشار صقور إلى أن محمد درس في مدرسة اللاييك في بيروت، وفي الذكرى العاشرة لشهداء 6 أيار1926 كتب قصيدة طويلة عن هذه المناسبة وهو في عمر صغير يذكر فيها اندحار جمال باشا السفاح وانكسار نيره لنصبح تحت نير الاستعمار الفرنسي، مستغرباً من ألا يغضب بنو يعرب، وتأتي هذه القصيدة في نهاية دراسته في بيروت ليستعد للذهاب إلى باريس ومن ثم لسويسرا لدراسة الحقوق، وهناك قابل بعض الشعراء الفرنسيين وتعلَّم على أيديهم، كما قابل القنصل الفرنسي هناك ودار بينهما حديث كان من عواقبه إنذار من السلطات السويسرية بمغادرة أراضيها، فعاد مرغَماً لضيعته خالي الوفاض عام 1930 ليعيش عدة متناقضات بين ما كان يعيشه في باريس ووضع بلاده القابعة تحت الاحتلال الفرنسي وسلطة الجهل والتخلف.

وختم صقور كلامه قائلاً أن “محمد” كان قومياً ووطنياً وآمن بالقومية والعروبة والاشتراكية، وعندما انتصرت ثورة جمال عبد الناصر مدحه بأكثر من قصيدة ليهجوه فيما بعد بقصيدة “فرعون” أثناء الانفصال، ولكن عندما رحل عبد الناصر عام 1970 رثاه بقصيدة عصماء أسماها “صمت الرعود”.

جرح وكبرياء

واعتبره د.محمد رضوان الداية أكبر شاعر كبرياء ظلم نفسه كثيراً، كما عاش مجروحاً نتيجة ما لاقاه ممن حوله، فلم يحتمل، مشيراً إلى أنه اشترى ديوانه الأول “ألم” بطبعته الأولى وقد حفظه، ومنذ ذلك الحين أحب الداية وزن البحر الخفيف الذي اتسم به هذا الديوان وهو البحر الذي يفيد الشعراء الذين يريدون التحدث عن أنفسهم  وآلامهم، وأكد على أن “نديم محمد” شاعر كبير ولديه قدرة كبيرة على النظم والإبداع،  ولا يُعرَف لماذا لم يأخذ حقه بين الناس، كما لا يُعرَف لماذا ورغم نيله عدداً من الشهادات لم يصل لأي منصب، وربما السبب برأي د. الداية انشغاله بالندماء، وشعره الحقيقي الذي يعبِّر عنه هو الشعر الغزلي الذي تجاوز فيه الحدود وقد ترجم فيه هواجس النفس التي لا تقال، أما لماذا لم يُطبَع شعره فلهذا أسباب، منها انكفاء محمد وعدم مخالطته للناس وعدم إتقانه لإدارة شؤون حياته.

شاعر الرومانسية

وأسف د.رياض العوابدة لأننا ندرس في جامعة دمشق أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ونركِّز على الشعراء المصريين، ظناً منا أنهم أكثر شهرة لنهمل شعراءنا السوريين، في حين أن الاهتمام بهم في جامعاتنا أمر ضروري، وأشار إلى أن “محمد” كان شاعراً رومانسياً من الطراز الأول، وتأثر ككثير من شعرائنا بالمدرسة الرومانسية مع بداية القرن العشرين الذي شهد حركات تجديد على صعيد الشعر والنثر والنقد، وقد تأثر شعراؤنا بها ومنهم نديم محمد، لكن الألم طغى على تحدياته وأخفق في السياسة وكتب عن المرأة والحيرة والتشاؤم وفي الإخوانيات، وكان يمثل عصره وترك نتاجاً ضخماً طبعته وزارة الإعلام في خمسة أجزاء، وقد كان في شعره بعدان، بعد رومانسي وجداني وبُعد قومي، ولم تكن رومانسيته كرومانسية بعض الشعراء الآخرين لأنها كانت رومانسية مطعَّمة بالبعد الوطني والقومي، فكان لشعره طابع مميز يميزه عن الآخرين، وأكد أن قارئ ديوانه يطمئن إلى هذا الشاعر الجميل، غني التجربة، والغزير في الإبداع، حيث كثرت الموضوعات التي طرقها وتعددت أشكال الكتابة لديه وتباينت هواجس الإبداع لديه، ما بين ألم وفرح وحيرة واطمئنان وشكٍّ ويقين وشغف كبير بالمرأة وعشق قوي للريف وحب للوطن وتعلق بالقومية، ونوه العوابدة إلى أنه وبتوجيه من الرئيس المؤسس حافظ الأسد مُنِح وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة لأن نتاجه الشعري يثبت أنه شاعر كبير.

أمينة عباس