ثقافة

الوجـــع.. حطـــب الحـــروب القـــذرة

غالباً ما كانت الفتاة ابنة الخامسة عشرة تعلم الهدف المنشود من شهادتها، وقفت أمام عشرات النواب في الكونغرس الأميركي، تحكي قصتها المغلّفة بالألم والذعر والدموع، هي الممرضة التي تعمل في “العدان” واحدة من مشافي الكويت، تدلي بشهادتها حول ما عايشته من همجية وعنف مزعومين لجنود الجيش العراقي حين دخل الكويت في بداية العقد الأخير من القرن الماضي، حكت الفتاة عما شهدته حين دخلوا المشفى، إذ قالت: “قاموا بانتزاع الصغار الخدّج من حواضنهم وعمدوا إلى إلقائهم على البلاط البارد دون رحمة”، وتابعت الفتاة شهادتها تستعطف وتستجدي “نخوة وضمائر” النواب العالقين ما بين دموعها وخوفها؛ والموافقة على منح رئيسهم صكاً للدخول في حرب على العراق في العام 2003.
سرعان ما انتشرت شهادة الفتاة؛ عبر ما يقارب 700 محطة تلفزيونية أمريكية تستفيد جميعها من خدمات شركة “ميديا لينك” التي تعاونت مع مؤسسة هيل- نولتون المشرفة على تصوير جلسة الكونغرس، ليصل عدد مشاهديها ما بين 35 إلى 53 مليون أمريكي “رقم لا بد أن يكون له تأثير أتى في صالح المشاركة في الحرب المنشودة”.

إعداد متقن
لم يدقق العالم حينها في هوية الفتاة ولا في انتمائها؛ ذلك أن حجة الكونغرس كانت كتمان هوية الفتاة وعائلتها حرصاً على سلامة الجميع، ليفضح الأمر لاحقاً؛ بعد عام من خروج القوات العراقية من الكويت، وبوساطة صحفي يدعى “جون ماك” الذي كشف أن وراء القصة أكذوبة كبرى، وأن الحكاية  ليست سوى عمل مسرحي أتقنت مؤسسة “هيل – نولتون” الإعداد له بدعم مباشر من رئيسها الذي لم يكن يخفي صداقته المتينة مع بوش الابن؛ وبالتنسيق مع بعض النواب، وذلك عبر تأهيل عالي المستوى للفتاة وتدريبها على أصول الإلقاء المسرحي وفن السرد القصصي، ليظهر للعالم أجمع أن تلك التي استطاعت استدرار عطف نواب الكونغرس لدعم الحرب على العراق؛ كانت ابنة السفير الكويتي في واشنطن وتدعى “نيّرة الصباح” لم تكن متواجدة في الكويت حينها، ولم تعمل ممرضة في أي يوم من الأيام، وفي العرض المتقن لم تكن “نيّرة” الممثلة الوحيدة بل شاركها الأداء الدكتور “إبراهيم عيسى” الذي أيّد ما جاء في شهادتها من تنكيل بصغار النزلاء في المشفى، بالطبع كان لتلك الشهادة حضور وذكر متكرر في خطابات الرئيس الأميركي خلال لقاءاته وحملاته التي هدفت إلى تهيئة الأجواء لإيجاد ذريعة ومبرر أخلاقي لحربه المقررة.
يذكر أن تلك المسرحية لم تكن بالمجان، إذ تذكر التقارير والوثائق حصول المؤسسة التي وقفت خلف العمل على مبالغ خيالية في حينها لقاء الجهد المبذول في الإعداد والإخراج والتدريب وكل ما يتطلبه أي عمل مسرحي نجاحه محتوم، تضليل وخداع لم تكشف حقيقته، إلا بعد أن كانت الحرب قد فعلت فعلها والتي لا يزال العراق يعاني آثارها حتى اليوم، قتل وتشريد ودمار؛ مشاهد لا تمحى من الذاكرة “وكيف تمحى وقد استغلت صورها لبث الإشاعات وتضليل الرأي العام خلال الحرب الحالية على اليمن”.
أما في العام 2013  فقد كان للمكنات الإعلامية تلك، محاولاتها لتكرار ما حدث للعراق من خلال نية بتوجيه ضربة أمريكية مخطط لها لسورية، يومها وفي تقرير موسع فنّدت جريدة “البرافدا” الروسية حادثة الهجوم الكيميائي المزعوم على الغوطة الشرقية، والذي اعتمدته أمريكا حجة لها واستغلها الإعلام الغربي في محاولة لترويج وتبرير التدخل، ليتم الكشف وبقليل من الفطنة والذكاء؛ وبعض من إعمال العقل؛ أن أشرطة الفيديو والتسجيلات المعتمدة أدلة على الإدانة؛ قد تم تسجيلها في لندن أو واشنطن، وليس على أي بقعة من الأراضي السورية.

سياق واحد
عرض القصة ليس لمجرد التذكر، بل يأتي في سياق الكم الهائل من الحوادث التي عشناها خلال هذه الحرب المستمرة علينا، والتي روج لها الإعلام الذي يقف خلفها بكل وقاحة دون اعتبار لأي منطق أو موضوعية أو ضمير إنساني، في تأكيد أنها اعتبارات باتت في عداد المنقرضات “في الماضي كان للضمير أن يقف حائلاً قوياً في وجه أي عمل يتعدى الإنسانية” الأمر الذي لم يعد مجدياً الآن، إذ إن الحقائق تصنّع والضمائر تُشرى، ويتم تحريف التاريخ بضغطة زر واحدة وزمن يسابق رفة العين.
حكاية “نيرة” ليست الأولى ولن تكون الأخيرة؛ في ظل حرب نعلم أن الهدف منها أن نصبح خارج التاريخ، حكاية يأتي في سياقها كل شهادة وكل ألم وكل نجاح تم العمل على تضخيمه والمتاجرة بأصحابه بغية لفت الأنظار، آخرها وليس الأخير الطفل عمران؛ والأمر لا يعني أي استخفاف بالألم والصدمة التي حملها وجه الصغير، لكنه استنكار لتوظيف هذا الوجع حطباً جديداً يؤجج نار هذه الحرب المستعرة.
واليوم بينما نعيش في عالم تحكمه الميديا والإعلام بوسائطه المتعددة ومن يقف خلفه، لن يكون  الرأي العام إلا على الصورة التي تلائمه وتخدم أهدافه، إعلام بعين واحدة، يرى ما يريدون له أن يرى، فإن لم تأت الحقائق كالتي يرغبون؛ اختلقوا لهم حقائق تبزها في الشكل والمضمون والتأثير، وبالتالي الحصول على الدعم والتعاطف المطلوبين، تندرج جميعها ضمن مفهوم التضليل والتزييف الإعلامي سواء عبر تضخيم الحدث أو تسخيفه، اختزاله أو تعميته، أو “طبخه” بالطريقة التي تخدم الهدف المنشود.

“بروتوكول”
لهذا دائماً ماتكالبت اللوبيات الصهيونية العالمية، للسيطرة على وسائل الإعلام العالمية، فهي آمنت دوماً وأدرجت الأمر ضمن “بروتوكولاتها الشهيرة” أنها أمضى وأشد فتكاً من أي سلاح تقليدي لما لها من دور هام في تكوين الرأي العام.
ولذات السبب؛ ليس مستغرباً أن نستيقظ كل صباح على حكاية جديدة توظف لإدانة كل من يقف عائقاً في طريق مشروع الهيمنة المرجوة، ينشرون خلالها ديمقراطيتهم وعدالتهم المزعومة في هذه البقعة من العالم أو تلك، لا يوقفها إلا الماكينات الإعلامية القادرة على مواجهة الوحش الذي يقاتلوننا به، تكشف للجهلة حقيقة ما يجري حتى في أقصى أقاصي الأرض، قبل أن يصبحوا بجهلهم جزءاً من الماضي أو التاريخ الذي يرسمه لهم الآخرون.
بشرى الحكيم