دواة الحبر وقصب السطور العتيقة.. يودّعــــان أحمــــد علـــي إســـماعيل
كم يبدو الغياب ثقيلاً وغير محتمل حين يدقّ الموت باب يومنا معلناً نفسه ضيفاً مقيتاً لا نستطيع التآلف معه، لكننا نتقبّله بامتعاض يرافقنا مدى الحياة، هذا الزائر الذي يقيّدنا بسلاسل من استسلام لا يمكننا الفكاك منها، لنرى أنفسنا على عتبة الوداع، كما حالنا الآن ونحن نودّع صديقاً وزميلاً عزيزاً، الخطاط والكاتب أحمد علي إسماعيل “أبو علي” الذي عشنا معه أياماً جميلة عندما كانت الجريدة تنفّذ بتقنيات بسيطة، حيث لم تكن التكنولوجيا قد اتّسع مداها في العمل الصحفي، فكنّا جميعاً نعمل أسرة واحدة بما تيسّر لنا من أدوات، وكان الصديق “أبو علي” هو خطاط الجريدة الذي لا يُشقّ له غبار في هذا المجال، وكان يشاكسنا بشيء من المباهاة أن خطوطنا تُبدي أننا لم نمحُ أمّيتنا، فيعيّرنا بقوله: “ما هذه الخطوط الملعبجة”، وبعد أن تحوّل تنفيذ الجريدة بكاملها على الكمبيوتر، نُقل “أبو علي” إلى القسم الثقافي، فهو من الجيل الذي أدمن القراءة الممنهجة وتعب على نفسه كثيراً وخاصة أنه وظّف حسه الساخر في الكتابة، فأنتج أجمل الكتابات، واستمرّ في هذا القسم إلى أن تقاعد من العمل تاركاً في نفوس أصدقائه وزملائه ذكراً طيباً.
تعود معرفتي بالصديق أحمد إلى بداية تسعينيات القرن الماضي، وقد عُرفت عنه سلاطة اللسان والتهكم من أي شيء، الأمر الذي كان يجعلني ألتزم الحذر في تعاملي معه، خوفاً من أن يُسمِعني كلاماً لا يريحني، وأضطرّ للرد عليه بمثله، لكن كان للمصادفة دورها في معرفتي به حيث ما خفت منه في تعاملي معه ارتكبته أنا في جوابي له عن سؤال وجّهه لي عن إحدى الزميلات، وكان هذا الجواب بداية لصداقة بيننا امتدّت حتى رحيله، رغم أنه لم يكن يوفّرني من “نزقه” ومزاجيّته إذ كان يتجاهل اتصالي به ولا يردّ عليّ، فأعاهد نفسي ألا أكلّمه أبداً، لكنه كان دائماً يلتف على الموقف ويتصل بي ويعترف بخطئه متأكداً أنني سأسامحه، وكان آخر اتصال بيننا منذ ما يقارب الشهر حيث كنت كالمعتاد قد هدّدته بأنني لن أردّ على اتصالاته، فاتصل بي من رقم لا أعرفه، وبادرني بضحكته التهكّمية ولسان حاله يقول: أعرف أنك ستسامحينني، ثم بعد فترة قصيرة من اتصاله، اتصلت به على الرقم ذاته لكنه لم يردّ، ولم أعاود الاتصال مجدّداً إلى أن باغتني هذا الصباح أحد الأصدقاء المشتركين بيننا بنبأ رحيله. هكذا قرّر “ابو علي” أن يرفع مرساته باتجاه شاطئ آخر، شاء الرحيل دون مقدمات كأنه كان قد حزم أمتعته وتهيّأ للرحيل دون أن يُعلم أحداً، ربما اشتاق إلى راحلين أعزاء سبقوه، ربما كان أوّلهم الأديب “حسن قطريب” الذي افتقده “أبو علي” كثيراً حين وفاته حتى إنه قال لي حينها: “الآن تيتّمت” فأجبته مستغربة بأن والدته ما زالت على قيد الحياة: “البركة بوالدتك وإخوتك” فأجابني من نختارهم في الحياة ويقاسموننا تفاصيلها هم من نُصاب باليتم لفراقهم، أما أهلنا الذين فرضتهم علينا الحياة فهؤلاء تربطنا بهم قرابة الدم، وليس بالضرورة أن نتقاسم معهم في الحياة أكثر من هذه الصلة.
كان “أبو علي” رغم تشاؤميّته التي تظهر أحياناً في عباراته وملامح وجهه، رجلاً مفعماً بالحياة، لديه جعبة من الأفكار التي تغني أي جلسة يوجد فيها، شخصاً مجبولاً بالطيبة والسماحة، والقدرة الدائمة على إضفاء الهدوء والشاعرية على الوقت والأمكنة، يدخل البهجة على الآخرين يسرّبها من بين أوجاعهم وهمومهم، إلى السبل المؤدّية إلى قلوبهم، وها هو يرحل تاركاً في قلوب أهله ومحبّيه غصّة كبيرة.
لقد أصبح الموت يحيط بنا كثيراً حتى بتنا نراه بلا معنى.. يموت بعضنا فنبكي أنفسنا بموتهم، ثم نعود إلى متابعة حياتنا محاولين التخفيف عن أنفسنا، إنها سنة الحياة.. موت يصدع الروح.. واحداً تلو الآخر يرحلون ونحن قابعون هنا حيث تضيق الأمكنة، ويطبق الزمان خناقه على أعناقنا، فنعيش معه صراعاً بلا نهاية، وفجأة نرى أنفسنا مرميّين على ضفاف عبثية الحياة، نعود إلى جوهر البدايات، إلى عمر الانتظارات، وشيئاً فشيئاً تتبدّد الالتباسات، ويبقى الحزن والوجع قاصراً عن تصديق الخبر. وأمام سرّ الحياة والموت تصغر الكلمات، وها هو الصديق أحمد علي إسماعيل، كما كثير من الأحبة الذين فقدناهم يغادرنا إلى عالم آخر، يركن إلى التراب، يلتحف الوحشة والبرد، لكن دفء روحه سيمنح المكان الكثير من الألفة.. “أبا علي” أيّها الصديق الذي ابتعد في سديم الأفق البعيد لروحك السلام ورحمة الله وغفرانه.
سلوى عباس