ثقافة

الزجــل بيــن الســريانية والعربيــة

أقدم نص مكتوب بالآرامي، بحسب المطران بولس بهنام، ورد في سفر التكوين عام (١٧٤٠ قبل الميلاد)، وذلك عندما وقع لابان الحراني العهد مع ابن أخته يعقوب بالآرامية، وسماه (نصب الشهادة)، وكتبت هذه الجملة في التوراة العبرية بصيغتها الآرامية التي وردت فيها.
أقدم نص لشعر نبطي، (يقول البعض إن النبطي هو عربي، ولكن الباحث في تاريخ السريان الأستاذ هنري بيدروس كيفا، يؤكد، ودون أي مجال للشك، أن الأنباط من الآراميين السريان ولم يكونوا عرباً)، وجد في عين عبدات بصحراء النقب، ويعتقد أن النص كتب في المئة عام الأولى قبل الميلاد، ومن الطريف أن النص النبطي وجد بجوار نص شعري آرامي سرياني، بينما أقدم المعلّقات العربية تعود للقرن الخامس بعد الميلاد.
يعتبر المؤرخون أن برديصان هو أبو الشعر السرياني، وقد عاش ما بين القرن الثاني والثالث للميلاد، والذي يعتبر أيضاً مطوراً لأوزان الشعر بعد وفا الآرامي (الذي ذكره اللغوي انطون التكريتي، ونسب إليه البحر الخامس، ويعتقد أنه عاش قبل الميلاد)، هذه الأوزان التي اعتمدها مارافرام السرياني (في القرن الرابع الميلادي) في كتابة آلاف القصائد، والتي عرفت بالمدارش، وهي قصائد دينية مغناة (المغنّى والذي يعني حالياً المعنّى).
يقول الأستاذ طـه باقـر: «ليس عندي شك في أن أوزان الشعر البابلي وأساليب تأليفه ونظمه قد أثرت كثيراً في أشعار الأمم القديمة التي كانت لها اتصالات مباشرة وغير مباشرة بحضارة وادي الرافدين، أخص بالذكر منها الشعر العبراني، والآرامي، والشعر الفارسي القديم “الاخميني”»، ثم يتحدث عن تواصل مسيرة هذا الشعر مع الشعر العربي لاحقاً.
إذاً قد يعود التشابه بين الأوزان السريانية والعربية لكونهما نهلا من نبع واحد هو الشعر البابلي، إذ يُرجع الدكتور صفاء خلوصي، (وذلك بحسب ما ورد على لسان البيروني)، الأوزان العربية للشعر السنسكريتي الذي يعتقد بأنه وريث الشعر البابلي.
دونت قصيدة “حوار بين صديقين” البابلية، (وذلك بحسب الباحث السرياني نزار حنا الديراني)، في بداية الألف الأولى قبل الميلاد، وقد وجدت في مكتبة آشور في القرن السابع قبل الميلاد، ولو جمعت المقاطع الأولى من أبياتها لشكّلت اسم الشاعر وتعبده للإله الذي يعبده، وعلى هذا المنوال نظّم مارافرام السرياني في القرن الرابع بعد الميلاد شعره الذي يعرف بالميامر والمدارش، وأيضاً نجد الشعر العبري وقد نظّم على هذا النسق، كما في (مراثي ارميا من واحد إلى أربعة)، وكذلك المزمور رقم (١١٩).
لا شك أن أوزان الشعر لم تأت دفعة واحدة كما هي عليه، ولابد أنها كانت نتيجة لتطور الحس الشعري للشعوب التي سكنت الشرق القديم، ومنهم السريان.
ومن الأوزان التي ظهرت عند شعراء السريان، ولها ما يشبهها في الشعر العربي بحر المتقارب: (فعولن فعولن فعولن فعولن)، بينما كانت في الأصل عند السريان: (ست حركات ولكن مع إسقاط السكون)، والبحر الطويل: (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن)، وبالسريانية يسمى أيضاً بالمزدوج، ويتألف من ١٤ حركة فقط، (مع إسقاط السكون)، وغيرها من الأبحر والأوزان، مع ملاحظة التشابه الكبير بين أوزان البحور العربية والسريانية، واختلافهما بأن تقطيع الأوزان، سريانياً، يعتمد على عدد الحركات فقط دون السكون، ونرى تأثير ذلك واضحاً في وزن القرادي، حيث يجوز “مط” الكلمات التي تحتوي على حركتين متتاليتين لكي تستوعب سكوناً بينهما، ومثالي على ذلك قول الزغلول: (حبك في قلب الزغلول/عم يغلي عطول عطول)، وكلمة عطول تلفظ عاطول عاطول لكي تلائم الوزن العربي، ولكنها صحيحة سريانياً، لأن العروض السرياني لا يكترث بالسكون.
يجوز في الشعر العربي أن يقع قسم من الكلمة في الشطر الأول، بينما يقع القسم الثاني في الشطر الثاني (التدوير) غير أن هذا لايجوز في الشعر السرياني، وهو أيضاً غير شائع في الزجل، ما يؤكد أن الزجل يتبع قواعد العروض السريانية.
من الاختلافات الأخرى أن الجوازات والعلل والزحافات شائعة في العربية، بينما هي محدودة أو معدومة في السريانية، وهذا مانراه في الزجل أيضاً، إلا في حالات نادرة، وهي ليست بجوازات حقيقية، إنما تبدو كذلك لأن تقطيع الشعر السرياني يعتمد على عدد الحركات فقط، فتبدو فعولن (ثلاث حركات) شبيهة بفاعلن (ثلاث حركات).
إن كثرة الجوازات والعلل في البحور العربية وغيابها عن البحور السريانية دليل على أن القبائل العربية أخذت بحور السريانية أو البابلية وغيرت فيها بما يلائم مزاجها وفهمها للإيقاع ويقال بأن الجوازات هي أكثر بكثير مما انتقاه الفراهيدي.
من الواضح أيضاً أنه يجوز في الزجل كما في اللغة السريانية، أن يكون الحرف الأول في الكلمة ساكناً، بينما لايجوز ذلك في اللغة العربية ما يدعم حجة الارتباط المتين بين الزجل والشعر السرياني.
لم يكترث شعراء السريان بالقافية (مثل بعض الشعر العربي الحديث) إلا بعد تأثرهم بالشعوب الأخرى ومنهم العرب في حوالي القرن التاسع الميلادي، وذلك بحسب الكاتب جورج كيراز.
لقد اكتشف مارإفرام السرياني في زمن لا مطابع فيه ولا دور نشر أهمية الموسيقا والأناشيد الشعبية في نشر تعاليم المسيح، فكتب آلاف الأناشيد التي تعبر عن جوهر الرسالة المسيحية، فكانت أعماله إنجيلاً مُغنّى ثابرت على نهجه الكنائس الشرقية، ولاسيما التي تتبع الطقس السرياني، بينما نرى أن الغناء كان محرماً (ولو نظرياً) في فترات متقطعة من تاريخ الدولة العربية، وربما لهذا استمر الشعر المُغنّى أو الزجل في الريف والقرى، حيث عاشت الأقليات في بلاد الشام (بعيداً عن السلطة المركزية المباشرة) بينما نراه أقل شيوعاً عند سكان المدن (يذكرنا هذا بازدهار الموشحات في الأندلس وتطويرها للأوزان العربية بعيداً عن السلطة المركزية).
تتميز المدارش (أناشيد مارإفرام السرياني) بأنها قصائد غنائية تبدأ بمطلع من بيت أو بيتين من الشعر، تضاف عليها مقاطع عديدة متناسقة ومتشابهة، على أن يعاد غناء المطلع بعد كل مقطع يضاف، وهذا شبيه تماماً بطريقة غناء الزجل، بينما لانرى هذا الأمر في الشعر العربي قبل الموشحات الأندلسية وقبل العصر العباسي.
بقي أن أذكر بأن شعراء الارتجال في الزجل كانوا ولعهد قريب يلقبون بالقوّالين، وقد يتذكر من هم في عمري أن القوالين غالباً مايبدؤون الارتجال بلفظ كلمة قل (هذه الكلمة كثيراً ماوردت في القرآن) وقل هي كلمة سريانية تعني أنه أوحي لي أو قيل لي لأقوله. فالقول باللغة السريانية هو الوحي أو الإلهام والقوّال هو الموحى له أو الملهم.
وقد يكون بدء القوالين ارتجالاتهم بكلمة قل سبب إسقاط الحركة الأولى في بعض القصائد الزجلية (في المعنى والقصيد) إذ إن كلمة قل تفي بملء الحركة الأولى وهي (حركة وسكون في الأوزان العربية). ثم درجت العادة على إسقاط الحركة الأولى حتى في وسط القصيدة.
إذن الزجل هو استمرار للشعر السرياني ومن قبله البابلي مع الاعتراف باحتكاكه مع المحيط العربي وغير العربي.
لايجوز أن ننكر أو أن نخجل من الحقيقة بل علينا أن نفتخر بتاريخنا وفضل اللغة السريانية التي صارت محكية والعربية التي هي لغتنا الرسمية.
السريانية والعربية لغتان أختان تعيشان في تفاهم جميل منذ آلاف السنين، وشعر اللغة المحكية واللغة العربية شعر شرقي واحد بلغتين لن تفترقا مهما امتد الزمن.

إياد قحوش