في ندوة الثقافة الوطنية ومفهوم التنوير.. المطلوب تشكيل مجلس ثقافي وطني
على الرغم من بساطة مصطلح “الثقافة الوطنية” ظاهرياً ومن وضوحه اللفظي والدلالي إلا أنه مازال مفهوماً إشكالياً يمتد ويستطيل عند الكثيرين.. هذا ما أكدته جميع المداخلات التي قدمها المشاركون في الندوة التي عُقِدت صباح أمس في مكتبة الأسد الوطنية تحت عنوان “الثقافة الوطنية ومفهوم التنوير” ضمن النشاط الثقافي المرافق لمعرض الكتاب الثامن العشرين بالتعاون ما بين وزارة الثقافة واتحاد الكتاب العرب واتحاد الناشرين السوريين. والتي شارك فيها الأساتذة مالك صقور- د.رضوان قضماني- د.جابر سلمان- الأرقم الزعبي- د.علي دياب- د.سليم بركات- د.ناديا خوست- د.عبد الله الشاهر وقد ترأس الجلسة الأولى د.نضال الصالح.
مفهوم عائم ومتحرك
أكد د.عبد الله الشاهر في مداخلته على أن مسألة الثقافة الوطنية مسألة إشكالية، لأن مفهوم الثقافة الوطنية عائم ومتحرك بسبب هشاشة الواقع الثقافي، وفقاً لمعطيات عديدة أهمها برأي الشاهر أن مسألة الهوية لم تُحسَم بعد، بالإضافة إلى جدل العلاقة بين العروبة والإسلام وحقيقة الارتباط بين العرب والعروبة والإسلام، وعدم تحديد ملامح مشروع النهضة ودور الثقافة الهامشي الذي لم يدخل في عمق القرار السياسي.. من هنا أكد الشاهر أننا بحاجة إلى ثقافة وطنية تتسم بالدينامية وسرعة التكيف واتخاذ القرار والقدرة على استخدام الوسائل الحديثة ونقل الغايات إلى واقع علمي ملموس والحاجة إلى مؤسسات ثقافية لا تحتكر الثقافة بل تشيعها وتؤازرها.
جبهة ثقافية حقيقية
وأشار الأديب مالك صقور إلى أن تعريف الثقافة وفق إعلان مكسيكو الذي يجمع بين السمات الروحية والمادية والعاطفية، والفنون والآداب وطرائق الحياة والإنتاج الاقتصادي، وتشمل الحقوق الأساسية للإنسان ونظم القيم والعادات والتقاليد، يضعنا وجهاً لوجه أمام بنية المجتمع، ومن أجل خلق الثقافة الوطنية وفق هذا المفهوم يفترض أن ندرس المجتمع دراسة شاملة، وتكون الدراسة بمثابة عملية سبر حقيقية اجتماعية اقتصادية سياسية تربوية ثقافية، خاصة في المجتمع الاحتكاري الطبقي والذي يتسم بالتسلط والبيروقراطية، وأن الثقافة الوطنية الآن تعني إقامة جبهة ثقافية حقيقية تواجه الفكر الظلامي وهذا يتطلب تضافر جميع المثقفين لإقامة هذه الجبهة، لأن المثقف مهما بلغ شأنه وعلمه ومعرفته وموسوعيته، إن لم يوظف ثقافته في خدمة وطنه ومجتمعه، وإن لم يسعَ ويناضل في سبيل الخير والحق والعدالة والمساواة فلا خير فيه ولا خير من ثقافته.
الثقافة سلاح مقاومة
أما د.عاطف البطرس فرأى أن للثقافة أكثر من تعريف، ولكن ثمة إجماع برأيه على أنها كل ما يساعد الإنسان على تكوين رأي ورؤية، تمكنه من اتخاذ موقف مما يواجهه في شبكة علاقته مع الطبيعة والمجتمع، وهي بالمحصلة طريقة تفكير ونمط حياة، فضاؤها الدلالي الوظيفي يتجسد في تمكين الإنسان من تصحيح مساره وتصويب قراراته وتحديد خياراته، أما صفة الوطنية المحددة للثقافة والتي تقيد دلالتها مرجعيتها لا تعود إلى الوطن، لأن في المحصلة النهائية للدلالة ليس كل ما ينتجه أبناء الوطن في الداخل والخارج في الحقل الثقافي، يمكن أن ينضوي تحت اسم الثقافة الوطنية، فهي ليست معادلاً دلالياً للصناعة الوطنية، وبالتالي فإن مفهوم الثقافة الوطنية برأي البطرس مشتق من الوطني، أي كل من وما يساهم في بناء الوطن والدفاع عنه وحمايته ويعمل على ازدهاره أرضاً وإنساناً، موضحاً أن الثقافة الوطنية تتجلى بأشكال مختلفة، وتغتني بمحتويات جديدة وفق تغيرات المراحل التاريخية، ولما تتعرض له الأوطان من تحديات وأزمات، من هنا ارتبط مفهوم الثقافة الوطنية في منطقتنا بمرحلة النضال ضد الاستعمار بكل أشكاله، فحملت لواء التحرر فالاستقلال فالسيادة، كما كانت حاضنة وحامية للهوية الوطنية الحضارية القومية الإنسانية في وجه محاولات التذويب والإلغاء، فشكلت الثقافة سلاح مقاومة وكفاح ضد محاولات الرأسمالية العالمية المتحالفة مع الحركة الصهيونية والرجعية المحلية فتطورت ثقافة المقاومة وانتقلت إلى المقاومة بالثقافة، منوهاً إلى أن ثقافة الوطنية لا تكتسب شرعيتها إلا إذا عمّدت في محيط مقاومة التبعية ومحاولات تفتيت الشخصية الوطنية، فالثقافة يجب أن ترتقي بالإنسان وتنقله من فيزياء البصر إلى كيمياء البصيرة في فهمه للعالم، وأن تنتقل بنا إلى التفكير التشابكي في عالم يشهد عولمة متوحشة، وعلى الثقافة الوطنية أن تصون الاختلاف وتحمي التعدد وتحافظ على الحوار والتنوع، وتؤمن بالعلم سبيلاً للتطور.
مشروع ثقافي وطني
كما أوضح الأرقم الزعبي في مداخلته أن الواقع يجعلنا بحاجة لمشروع ثقافة وطنيّة ذات نفع ثقافي عام، تؤمِّن الانفتاح والتحاور والتفاعل والتشارك بين الذات الوطنية والآخر، ثقافة عقلية واقعية وليست تخيلية أو حالة متعذر تحقيقها، أمّا ملامح الثقافة التي نريد فهي ثقافة وطنية إنسانية، تحدد الذات الوطنية وحدودها مع الآخر، ثقافة وطنية حركية للإنسان ومن الإنسان، تحمل ما تحمل من إبداع وخروج عن المألوف، ثقافة بناء للجمال والذوق العام وإنتاج الأعمال الإبداعية، ثقافة وطنية تراكمية متجددة قابلة للمراجعة والتعديل وتسمح بالتصالح والتقارب بين ما هو تراثي وحداثي، واقعية بعيدة ما أمكن عن الأيديولوجيا، موضوعية تؤمن بالتنوع في الوحدة الوطنية وقادرة على مواجهة ثقافة العولمة والغزو الثقافي، والغلبة فيها للطبقة الوطنية الصادقة الفاعلة، كما تساءل الأرقم الزعبي عن مقدار ما تحمل ثقافتنا الوطنية الحالية لشيء من هذه الملامح، في حين كان سؤاله الثاني: هل لدينا خطة ثقافية وطنية واضحة الأهداف والسياسات والإجراءات تلحظ المستلزمات المتاحة والإمكانيات قابلة للقياس والمراجعة، محدد زمن تنفيذها مسبقاً؟ وتساءل أيضاً هل تحوي هذه الخطة المفردات الآتية: إبراز الهوية الوطنية الجامعة، تعزيز ثقافة الديمقراطية والتعددية تؤكد الإبداع واحترام المبدع وتتضمن تثميراً لدور المرأة، خطة ثقافية من شأن تنفيذها تأمين المشاركة برغبة وأخلاقية وطنية لجميع مكونات المجتمع؟ وقرر الزعبي ترك الإجابة على هذه الأسئلة للجميع.
كما ختم باقتراح رفع توصية لتشكيل المجلس الثقافي الوطني تتمثل فيه كل الوزارات والمؤسسات المعنية ورواد فكر، ممن لديهم القدرة على العمل والتفاني في مجال الإبداع الثقافي، كما هرب من وضع تعريف جاهز لعنوان الندوة لتعذر وضع تعريف شامل جامع مانع لها.
وقدم د. خلف المفتاح عضو القيادة القطرية رئيس مكتب الإعداد والثقافة والإعلام القطري مداخلة شكر فيها المعنيين والمشاركين بالندوة مثمناً جهودهم في هذه الظروف الصعبة، مشيراً إلى أهمية رعاية السيد رئيس الجمهورية للمعرض، فهذا دلالة على المكانة الكبيرة التي تمثلها الثقافة والكتاب في ضمير رئيس الجمهورية وكل السوريين بشكل عام، وإقامة هذا المعرض في هذه الظروف هو دليل قاطع على أن ماجرى في سورية من استهداف لها لم يسرق من دمشق سماتها الثقافية والحضارية.
وأشار المفتاح إلى أهمية الأفكار التي طرحتها التندوة، والتي تحتاج لتوطين ثقافة يتم العمل من أجلها لترسيخها في عقول الناس، داعياً للعمل بعقل مؤسساتي وإستراتيجية وطنية.
كما نوه د. المفتاح إلى أهمية مداخلة الأديب الأرقم الزعبي الذي قدم برأيه رؤية منهجية في التعاطي مع واقع الثقافة الوطنية، مشيداً باقتراحه بإنشاء مجلس ثقافي وطني الذي تعمل القيادة على ان يرى النور قريباً، كما نوه إلى ضرورة التجديد الذي يعطي الحيوية للأمة والأوطان ، وهنا يأتي برأيه دور الإبداع.
وختم د. المفتاح بالتأكيد على ضرورة التعامل مع الخلاصات التي تخرج بها مثل هذه الندوات بجدية حتى لاتتحول هذهه النشاطات إلى طقوس عمل لانتيجة منها.
أمينة عباس