ثقافة

“جـان راسـيـن”.. مـن أهـم رواد المـسـرح الفـرنـسـي

من أهم كّتاب المسرح الفرنسي , كتب المأساة مقلداً القدماء, إلا أنه أعطاها بعداً فلسفياً دينياً مختلفاًعن المنظور اليوناني الروماني القديم, لذلك تعتبر مسرحياته محطة هامة في تاريخ المأساة الاتباعية (التراجيديا الكلاسيكية) في القرن السابع عشر.
ولد جان راسين عام 1639 في لافيرتي ميلون، وهي مدينة صغيرة من مدن فرنسا ونشأ في دير بور رويال. في العشرين من عمره انتقل إلى باريس واستقر فيها، وقد تكون أحداث طفولته أثرّت فيما بعد في كتابته, ففي سن الثالثة فقد راسين أبويه لترعاه جدته, وعندما بلغ التاسعة من العمر  التحق بالمدرسة الرهبانية, حيث تلقى تعليماً كلاسيكياً ممتازاً, فأدرك مبكراً جداً أن الإلوهية ليست حرفته بل الأدب. وهناك أسطورة تقول أن راسين الشاب كتب مسرحيته الأولى عن رواية المؤلف اليوناني (هلي دوروس) فسلبه إيّاها المعلمون وأحرقوها. لكنه كان عنيداً فانغمس ثانية في الرواية واستعاد المسرحية، فأحرقت مرة أخرى، بعد أن أتلفت المخطوطة للمرة الثالثة، وقد صرح راسين بأنه حفظ مسرحيته عن ظهر قلب لذلك لم يكن بحاجة إلى تدوينها.
يعد راسين مؤسس المأساة الجديدة التي تقوم على تقليد القدماء، وارتبط ارتباطاً مباشراً بالتيار الاتباعي الجديد الذي ساد في فرنسا في القرن السابع عشر, ولهذا فقد ابتعد عن مأساة كورنيه البطولية, كما ابتعد عن طرح المشاعر الرقيقة والمثل البطولية المرتبطة بتقاليد الفروسية والباروك، ليدخل أكثر في تحليل العنف والهواجس التي تعصف بالروح البشرية، فبنى مسرحياته وفق مبدأ الوحدات الثلاث ( المكان و الزمان والفعل الدرامي) ويمكن أن تصنف مسرحياته ضمن المسرح الفقير من حيث تسلسل الأحداث وغياب التعقيد, لكنها تحمل غنى كبيراً في تحليل السلوك البشري، وتشي بقدرة كبيرة على تحليل النفس البشرية وأهوائها, وحوّل الصراع الموجود في المسرح اليوناني من كونه صراعاً خارجياً تشكل الجوقة ممثلة المدينة احد وجوهه الرئيسية, إلى صراع داخلي يتم على مستوى العواطف والرغبات، وهو عندما يرسم المصير المأساوي للبطل يبتعد تماما عن المنطق القدري المعهود في المسرح اليوناني والروماني, حتى عندما يقول انه يستوحي مسرحياته من هذا الأدب, ليحّمل مأساته بعداً مبنياً على فكرة المسيحية الخالصة، وعلى الشعور بالذنب أمام أي خرق للتعاليم الصارمة السائدة في تلك المرحلة.
كتب راسين عدة مسرحيات من التاريخ الروماني مثل “بريتا نيكوس, بيرينيس” وكتب مسرحيتين لهما طابع ديني تربوي هما: “استر1689 وأتالي 1691” إضافة إلى المسرحيتين التراجيديتين الرائعتين: “فيدر واندروماك” التي كتبها في القرن السابع عشر عندما كان في الثامنة والعشرين من عمره. وتتضمن هذه المسرحية المبكرة للكاتب قصة حب تجد جذورها في الحروب الطروادية, وتدور في أروقة قصور الملوك ومن تبقى من المشاركين في تلك الحروب, وتبدو ناتجة عنها، لكن في خلفية هذا كله ثمة أرواح تحب وقلوب عطشى للهوى, ولئن كانت البطلة اندروماك, التي تحمل المسرحية اسمها, هي الشخصية المحورية فان عدداً  كبيراً من الباحثين , لم تفته الإشارة إلى أن هرميون , غريمة اندروماك الولهة و العاشقة , تكاد تكون هي القطب الرئيس المحّرك للأحداث و للأهواء في هذا العمل .هرميون , هي أول امرأة  عاشقة رسمها قلم راسين أما اندروماك فهي تعطي المسرحية ( أنوار الشعر ) وفق ما يراه شاتو بريان -الذي طالما أعجب بهذه الشخصية .
اندروماك هي أرملة هكتور , أحد أبطال الحروب الطروادية . و كان بيروس , ملك ابيروس قد أسرها عند نهاية تلك الحروب مع طفلها , و ضمها إلى حريم قصره و يقع في غرامها رغم ارتباطه بهرميون خطيبته , غير أن اندروماك لا تريد أن تحب أحداً من بعد هكتور, تريد  أن تبقى  وفيّة لذكراه حتى  نهاية  حياتها .   مسرحية اندروماك لاتزال تعتبر حتى اليوم من أهم ما كتب راسين إن ما يلفت الانتباه في هذه المسرحية هو أنها تحكي عن الحب , لكن الحب هنا لا يأتي من لدّن الآلهة , و ليست له علاقة بأي لعنة إلهية اعتادت أن تلعب دوراً أساسياً في التراجيديات الإغريقية , فما يقدمه راسين هنا إنما قوة لا تقاوم –هي قوة الحب – آتية من عمق الأعماق المظلمة للروح الإنسانية لتفلت من رقابة الإرادة و صرامة العقل .
و هكذا نجد أن بيروس وهرميون  لا يمكنها أبداً أن يكونا سيدي مصيرهما , و هذا هو الموضوع الحقيقي للمسرحية .
إبراهيم أحمد