سهيل عرفة.. سِحْر وجاذبيّة الأصَالة
من منا لم ترفرف روحه طرباً وتيهاً بينما صوت الكبير صباح فخري يصدح “يا مال الشام” ومن منا لم تأخذه العزة بينما أمل عرفة والفنان فهد يكن يقرئان الوطن السلام بينما يغذ السير في طريق المجد؛ في أغنية صباح الخير يا وطناً”..ألا تزال القلوب تزهو برائعته التي لحنها لدلال الشمال “من قاسيون أطل يا وطني”. إن هي إلا بعضاً من ألحان ابن حي الشاغور الدمشقي العريق؛ حيث تشرب الصغير سهيل عرفة معاني الأصالة والعراقة والتمسك بالتراث؛ ، ليكون ابن بيئته حتى عندما اختار الفن طريقاً له؛ عرفة سليل العائلة المحافظة التي كان من الطبيعي أن يرافق الطفل الصغير والده إلى الموالد والمناسبات الدينية، بينما كان الاستمتاع بالتراتيل الدينية أو قصص الحكواتي الشعبية نوعاً من الترف الكبير، وهو الأمر الذي أدمنه الفتى لكي يشبع من خلاله حاجة لديه ستكون يوماً بوابة الدخول إلى عالم الغناء والتأليف الموسيقي.
عرفة الذي كان القدر يرسم له درباً إلى الغناء أخذ يتعلم ويجيد التعامل مع الاختراع العجيب “الراديو” هذا الصندوق السحري الذي فتح المجال للفتى للاستماع إلى ألحان وأغاني وموسيقى مشاهير عالم الفن آنذاك، وحيث تمكنت من أذنه ألحان السوري فريد الأطرش الفنان المتفرد بأسلوبه، مادفعه للبحث عن وسيلة لتعلم العزف ومحاولة اقتناء آلته الموسيقية الأولى التي سرعان ما ذهبت ضحية غضب الأب، ليتلوها العديد من المحاولات والآلات التي أصبحت حطاماً في غمضة عين. لكن لا بد للإصرار والموهبة الحقّة أن تصل بصاحبها إلى المراد؛ فيدرس النوتة الموسيقية على يد سامي المرداني بينما أخذ أصول العزف على العود من أحمد الحلواني، يساعده في ذلك المخزون الكبير من الألحان أتاحته له موهبته في الاستماع السليم لأعمال الكبار من الفنانين.
مع إذاعة دمشق
كان للظروف التي أتاحت له أن يجتمع بأمير البزق محمد عبد الكريم ورفيق شكري ونجيب السراج، أن تفتح له المجال للتعاون مع إذاعة دمشق التي كانت تعيش عصرها الذهبي، وحيث كانت له بوابة العبور إلى العربية كالعديد من المبدعين العرب، الأمر الذي وثّق علاقته بالكثير من فناني الزمن الجميل، ليبدأ التعاون مع الفنانة نجاح سلام في العديد من الأغنيات، ويقدم عبر التعاون مع حليم الرومي للشحرورة صباح أولى ألحانه لها “من الشام لبيروت” لتليها العديد من الأغاني والألحان والنجاحات التي تعد اليوم من أيقونات الأغنية العربية، كأغنية “يا طيرة طيري” للفنانة شادية و”سكابا يا دموع العين” لدلال الشمالي و”يا غزالاً” لصاحبة الصوت المخملي نجاة الصغيرة.
تميز وخصوصية
من المعروف أن تجربة الفنان سهيل عرفة تميزت في مجملها بواقعيتها وقربها من الناس بالرغم من تلك المسحة الرومانسية التي شابتها، فكانت قريبة من الجميع، تحمل رائحة الأرض التي تنتمي إليها، بسيطة بساطة ترابه راسخة كما جباله، تميزت من بينها ما قدمه للأغنية السورية وتجربته مع الأصوات السورية تحديداً فهي كما قال في أحد حواراته: “ابنة بيئتها، منتمية إلى تراثها وأصالتها” يشهد لها ما قدمه للفنان الكبير صباح فخري من أغنيات شكلت بصمة خاصة به وعلامة فارقة، تتناقلها الأجيال الشابة حتى اليوم؛ من “يامال الشام إلى ميلي ما مال الهوى” وقصيدة الشهيد، بينما قدم للفنان فهد بلان العديد من الألحان المتميزة منها الأغنية التي مجّد فيها الوحدة مع مصر “بطل الأحرار” ثم “بالأمس كانت، ومن يوم ولدنا” والكثير مما قدم لأهم الفنانين السوريين كمصطفى نصري وفؤاد غازي، فاتن حناوي وعصمت رشيد وأيضاً موفق بهجت. أعمال جميعها امتلكت تلك الخصوصية التي تمتاز بها الأغنية السورية، والأمر بالطبع يسري على مشاركاته العديدة في التلحين للعديد من الممثلين وأغاني الأفلام التي كان بدايتها فيلم “عقد اللولو” للفنان دريد لحام ونهاد قلعي وفيلم “غرام في استانبول”، في ستينيات القرن الماضي، لتأتي الخيبة التي أصابت الجماهير العربية إثر نكسة حزيران وتنعكس بشكل طبيعي على السينما والتلفزيون، تعاون خلالها عرفة مع المخرج فيصل الياسري في فيلمه الوثائقي المأخوذ عن قصيدة محمود درويش “نحن بخير طمنونا عنكم” بالاشتراك مع منى واصف وعبد الرحمن آل رشي، ومصطفى نصري، فينال الفيلم فضية مهرجان لايبزغ، ثم مع المخرج قيس الزبيدي، لتكر بعدها سبحة الأفلام كـ “الفهد والقتل عن طريق التسلسل”، بالإضافة إلى العديد من الأعمال التلفزيونية كلن أولها “هذا الرجل في خطر” لعلاء الدين كوكش في منتصف السبعينيات، ثم “أيام شامية وأبو كامل” وآخرها “حكايا الليل والنهار”.
بعيداً عن التغريب
الموسيقار والملحن سهيل عرفة الذي آمن دائماً أن عالمية أغانينا وموسيقانا تكمن في روحها وشخصيتها وخصوصيتها بعيداً عن التقليد والتغريب، فأخلص لها كل الإخلاص..لا بد أن يجعله بحق ذلك المبدع السوري الكبير الذي ساهم مساهمة كبيرة في إبراز موسيقانا العربية السورية ونشرها عربياً وعالمياً.
حينما سئل يوماً في أحد حواراته: “ماذا تعني لك التكريمات الكثيرة المعلقة على جدران مكتبك؟ أجاب: “أفتخر كثيراً بها لأنها تذكرني بكل عمل جميل سعد به الناس..وهي بمثابة وثيقة تقول لي: يعطيك العافية” ولعل هذه السطور تفيه بعضاً مما يستحق من العافية.
بشرى الحكيم