ثقافة

في الكتابات الأولى

غسان كامل ونّوس

يُلاحَظُ لدى كثير من الذين يُقدِمون على اجتراح الكتابة الإبداعيّة، رغبةً في دخول الحيّز الأدبيّ الأثير، كباراً وصغاراً، بعض السمات المتشابهة، ويمكن تفهّمها واستشعارها بلا كبير جهد؛ منها، وربّما أبرزها، استخدامُهم للكلمات ذات الإيقاع الظاهريّ الواحد أو المتقارب، ولاسيّما السجع المخاتل في نهاية كلّ سطر، على أنّه قافية، من دون أن يكون النصّ منظوماً وفق خصائص الشعر العموديّ، أو مفعّلاً، أو موزوناً بأيّ معيار؛ ظنّاً منهم أنّ التقفية شرط لازم وكافٍ؛ كي يكون النصّ قصيدة شعريّة. وليس هناك جدوى من البحث في صحّة القافية المتبنّاة، أو انسجامها مع القول والفحوى، وفيما بين سطر وآخر، شكلاً ومعنى، ما دام النصّ في مجمله، أو غالبيّته، منثوراً. ولا يحتاج الأمر إلى كثير من تأكيد أنّ ذلك التسجيع لا يقدّم، ولا يؤخّر في قيمة النصّ أو جدواه؛ النصّ الذي يمكن أن يكون متميّزاً، من دون أن يكون موزوناً أو مقفّى، ومن دون أن نختلف على تسميته، التي يمكن أن يدخل فيها الشعر.
تلك هي حال من يخوّض في ميدان، مهما كان أثيراً، من دون معرفة وافية، وبمعلومات غير دقيقة؛ والرغبة وحدها لا تكفي، والموهبة أيضاً! ولهذا أسباب عديدة؛ منها الذهنيّة (الثقافيّة) المتوارَثة، والحال غير المعمّقة التي تسود الوسط الأدبيّ، حول الشعر وخصائصه، وأهمّيته وتقدّمه (بشكله التقليديّ) على النثر بأشكاله المتعدّدة؛ ولا سيّما إذا ما كان هذا النثر، لا ينضوي تحت مسمّيات الأجناس المعروفة؛ وهو ما سبّب نقاشاً وحواراً ومواقف وآراء متباينة إلى درجة التناقض، فتعصّبت أو انفتحت، وقبلت أو رفضت؛ ومنها ما اقترح تسميات لم يتمّ الإجماع عليها؛ وهذا أمر طبيعيّ ومفيد ومفتوح؛ ومن الأسباب أيضاً، أنّ من يقدّم المعلومة ليس متمكّناً في هذا المجال، أستاذاً للّغة، أو مشتغلاً في هذا المجال، كاتباً أو مسؤولاً “ثقافيّاً”، وإن كان مزمناً أو معوَّماً في التعامل والحضور؛ فيقدّم العلامات الفارقة، التي يحفظها، أو يمارسها.. فتكون خارجيّة، أو مألوفة، أو معهودة.
وقد تكون لدى المتقدّم إلى هذا الميدان جدّة، أو تسرّع، أو رغبة، من دون تحضّر جيّد، أو اندغام في الحالة المتمثّلة، وقد لا تكون ثقة، وهذا لا يبدو غريباً؛ فهو مستجدّ، وخائف، ومتلهّف، ومستعجل، وساع إلى الهيجاء بأسلحة قديمة. وليس من السهل إقناع من يعتقد بما يقول، وقد يصل إلى المنابر، وينتقل بينها، بأنّ هذا ليس دليلاً على علوّ كعب في الشعر؛ بل ليس خطواً مجدياً في مساراته.. فقد يحسب أنّ الأمر ينفلت من بين يديه، أو أنك متحامل عليه، وعلى الشعر العموديّ؛ لأنّك من المعجبين بالحداثة، المعتقدين بأهمّيتها وضرورتها وجدواها. وستبذل جهداً مضاعفاً ومتكرّراً لبيان أنّ النثر غنيّ أيضاً؛ بل واسع الغنى في المفردة والاشتقاق والصياغة..وهو جدير لوحده أن يعبّر عن موهبة، وشعريّة، وتميّز، مع قليل من الإيقاع المملِّح، أو من دونه، وكثير من الحيويّة الداخليّة، والجوهر والغنى. بصرف النظر عن التوقيع المفتعَل، والتسجيع المنفعِل، والضجيج، والصدى المجلجل. وانّ الموهبة يمكن أن تجد قيامتها في هذا التحرّر من القيود المتوهَّمة، وتبلغ أبعد مدياتها، وأعمق أحاسيسها، بتجاوز هذه الحواجز النفسيّة، والعقد الافتراضيّة. ومن الناشطين في هذا المجال، والناشطات، من لا يستطيع منه فكاكاً؛ لخوف من عبور لا يملك أدواته، وقصور عن مغامرة، لا يملك أشرعتها، ولا أجنحتها الأخرى، غير المرئيّة ربّما! ومنهم من لا رصيد لديه، ولا طموح؛ فيعيش “أبد الدهر بين الحفر”!. وهل هناك عناد أو إصرار على عدم التغيّر، أو التطوّر، أو التعرّف إلى موارد أخرى، وسبل وعناصر وجهات أخرى؟! أم أنّ الأمر يتعلّق بالإمكانيّة والتسويق والاستسهال، وحبّ الظهور السريع والمتعدّد في مواقع ومهرجانات وإعلام؟! لكنّه معرّض للخفوت السريع، والخروج من الموالد التي دخلها بطبول وهرج، بلا أثر ولا أسف.
الأمر ليس خياراً شخصيّاً، يتعلّق بالقوّال ذاته، وبمن معه؛ بل بمتلقّين وثقافة وجدوى..بمستوى عام، وبمجتمع يريد أن ينهض، ويتعالى على التلقين والتحفيظ والترديد والترتيل، إلى الاهتمام والتمثّل، والتعمّق والاندغام، والتجدّد النابع من تحليل وربط واستنتاج إلى قناعة ومناعة، لا من سمعٍ وطاعة، ومبالغة في التجويد والإطناب والتقريظ، بما ليس له من أصل، وليس من الفنّ والإبداع في شيء!.