الراحل طارق حريب.. والأسطورة عارية إلا من حقيقتها
لأنها دمشق، ولأنها الحبيبة، اختار لرحتله الأخيرة أن تكون عبرها، ولأنها عشقه اختار طارق حريب ابن مدينة الميادين أن يمنحها كل ما امتلك من مواهب وقدرات، تراوحت بين الرسم والعمل الإذاعي والتلفزيوني والرواية، حريب الذي عمل في التلفزيون والإذاعة السوريين في بداية الستينيات، ليكون له شرف إدارة انطلاقة إذاعة صوت الشعب في العام 1978 وحتى العام 1990، وليترك لنا في نهاية رحلته الغنية إرثاً من الحوارات والإنجازات الإعلامية، والعديد من المؤلفات والدراسات التي بحثت غالبيتها في عالم الأسطورة والفنون السورية، مؤلفات تعدت العشرة أعمال كان من بينها “المدينة الوردية، دراسة عن ملحمة جلجامش”، دراسة بعنوان “خزانة العرب” مؤلفة من تسعة أجزاء تم تحويلها إلى عمل إذاعي من 190 حلقة، وكتابه “شخصيات بين الأسطورة والخيال” الذي حاول من خلاله إعادة بعض الشخصيات الأسطورية التي يغتني بها تاريخنا إلى حقيقتها الإنسانية، بعيداً عن الهالة التي وضعها ضمنه الرواة.
في جولة قصيرة بين صفحات كتابه “شخصيات بين الأسطورة والخيال” الذي لا بد يشكل إضافة غنية لمحبي الغوص في عالم الميثولوجيا، والباحثين عن الحقائق بعيداً عن تهاويل الحكايات الشعبية، جميعها أتت في كتاب، حفل بالكثير من المعلومات الغنية والقيّمة، يضعنا الراحل طارق حريب أمام حقيقة لا بد من الإقرار بها ذلك أن المثقفين بما يمتلكون من وعي وغنى فكري مدعّم بالمعلومة العلمية أولئك المشتغلين على الفكر ودراسة نوازع النفس البشرية، هم المؤهلون لتقديم الأسطورة التي يعشقها الناس، إنما بصورة خلاقة غنية، بعيداً عن الخرافة وتهاويل الحكايات المتناقلة عبر الأجيال.
الكتاب الذي قدم له الدكتور والمؤرخ محمد محفل تناول أكثر من خمس عشرة شخصية أسطورية لا بد أن حريب قد تعمق كثيراً في الغوص والإبحار بحثاً عن حقيقتها، على أن الأمر لم يفقدها ذلك البريق والقدرة على جذب القارئ المحب لمعرفة أصولها وحقيقة زمانها وواقعها.
الملك السومري
ولأنه الملك السومري الذي شغلنا وأغنى تراثنا، الخالد المخلّد في ذاكرتنا جميعاً، لأنه جلجامش الباحث عن سر الخلود، الذي يتيح له إبعاد شبح الموت، الذي شكّل للملك المشاغب هاجساً ولغزاً أراد فك شيفرته بكل جوارحه، كان المدخل للشخصيات التي تناولها الكتاب بالدرس والبحث، ليتضح للقارئ، أن عملية البحث والسؤال ومضمون حكايته هو ما جعله خالداً في النهاية، ألا يعد أكثر الشخصيات الأسطورية تواجداً في حياتنا اليومية ولو بالفكرة؟ وربما شكّل مضمون تساؤلاته، المدخل له كي يُخلّد في ذاكرة الأجيال والتاريخ والمؤرخين.
إذ أنه الخلود الحقيقي الذي لا بد يَخفى عن الكثيرين، فما جلجامش سوى شخص عاش زمانه ووقته لكنه تميز عن سواه بالسؤال الملح، والغوص في المجهول بحثاً عن إجابة عن تساؤلاته الملحة.
الزباء
هي إحدى الشخصيات الواردة في الكتاب؛ تأتينا عارية إلا من حقيقتها التي كشفها فضول حريب، الذي قدمها مخلوقاً عادياً بحيث أنها ولدت ووجدت في مكان وزمان طبيعيين لكنهما مختلفين بطبيعة مرحلتهما الزمنية، هاهي “الزباء” التي ولدت كما تولد الفتيات أو كما يولد أي إنسان، عاشت كما بقية البشر، إلا أنها تميزت بكونها ولدت لتكون ملكة وحاكمة، استطاعت عبر مواهبها الخاصة أن تحكم وتقدم العديد من الإنجازات، بحيث أتت وقياساً إلى معايير العصر الذي وجدت فيه، شخصية لها اعتباراتها، ولها أهميتها البارزة، وهو ما مكّن المؤرخين من القياس عليه أيضاً، من حيث قدرتها على إدارة الحكم بشكل تفوقت فيه على الرجال في زمانها، الأمر الذي فتح الباب للرواة وبرر لهم تقديمها، بالشكل الذي نقرأ عنه نحن، شكل أقرب إلى الأسطورة بقدرتها على اجتراع المعجزات والخوارق، ليأتي ناقلو الحكايات، وممتهنو القص الشعبي كل بما يمتاز به من خيال وموهبة يضيفها إلى الإعجاب المتملك منهم بالشخصية، يضيفها إلى الحقيقة لتأتي وقد رُفِعت إلى مصاف الأسطورة حيناً والآلهة حيناً آخر. ومن ثم يتكفل الزمن والتاريخ بنقلها إلى الأجيال اللاحقة والمتعاقبة تحمل في أغلب الأحيان أكثر مما تحتمل من مزايا وصفات وقدرات، وهي لم تكن سوى “الزباء” التي حكمت كسواها من الحكام، لكنها تميزت بكونها امرأة تفوقت على الرجال من الحكام في أسلوب الحكم والقدرة على الإمساك بأمور مملكتها.
حريب الذي تحرى ونقّب كثيراً حول الشخصيات التي اختارها نماذج خضعت للدرس في كتابه، من خلال العديد من المراجع والكتب التاريخية والأدبية والتراثية، بما ورد فيها من نصوص تضمنت قصصاً حول تلك الشخصيات، عمل جاهداً على أن تأتي محتفظة بروحها وأصالتها، دون تحريف أو تصرف يشوهها، قياساً إلى زمنها وواقعها الذي أحاط بها، لكنه أصر على أن تكون محاولة منه “لتجريد تلك الشخصيات مما ألصقه بها الرواة من خرافات وتهاويل مدهم بها خيالهم”، ليكون كتاباً يستحق القراءة المعمقة، والتقدير لما فيه من جهد وإبحار، بذله الراحل بكل حب وأمانة وإخلاص.
بشرى الحكيم