ثقافة

طقوس باللّون الأَحمر

قد تذهلنا الإجابات إن جال في الذهن سؤال عن ماهية التضحية ومعناها، وقد تقتلنا التفاسير إن تساءل العقل عن معنى منطقي للأضحية “وما أكثرها اليوم”، أن تضحي في الأعراف والمعاجم يعني أن تبذل الغالي والرخيص؛ والأغلى هي النفس تبذلها في سبيل قضية كبرى أو تكريساً لفكرة نبيلة تخدم البشرية، أو أن تقدمها بالمجان دفعاً للضرر عن آخرين تحبهم وتؤثرهم على نفسك، وقد تكون بذلاً للمال أو الوقت أو المصلحة الخاصة.
هو مفهوم يختلف من فرد إلى آخر ومن جماعة إلى سواها “هي سلوك ينبع من أسلوب حياة، حيث تبلغ النفس فيه أعلى مراتب الإنسانية؛ لتكون فعّالة؛ خلاقة، تتخطى عقبات الحياة وظروفها” هو شرح للتضحية من عالم النفس”آدلر”، وقد يجد له الآخرون تفاسير أخرى، كل على هواه أو معتقده أو إيمانه، فللوالدين أن يضحّوا بالوقت والجهد والراحة في سبيل توفير حياة كريمة للأبناء، ويضحّي الطبيب في سبيل صحة المريض، بينما تسمو التضحية في نفوس كريمة تحرس الأوطان وتوفر للقلوب الطمأنينة والأمان والعيش العزيز، هي فداء من محبّ كريم للأحبة لا شك أنها الأسمى من بينها جميعاً. هي التضحية تقابلها الأضاحي التي تُبذل دماها بغير رضاها.
في ثقافات الشعوب الهندوأمريكية وتحديداً “الأزتك” كمثال عنها صارخ؛ وهي الأشهر من بينها والأكثر تحضراً وتقدماً، فيما تركت من إرث في البناء والعمران يضاهي أكثر المدن الأوروبية تطوراً في الزمن نفسه بالطبع؛ في تلك الثقافات التي تم تكريسها من خلال الديانات والمعتقدات الوثنية التي اعتنقتها تلك المجتمعات، فآمنت بها وبتعاليمها رغم غرابتها ووحشيتها في الكثير من طقوس العبادات التي تتضمنها؛ وأقامت المعابد البالغة الضخامة؛ دوراً للصلاة والعبادة، بما حفلت به من تماثيل كبيرة التي تكرم آلهتها، وطقوس وعبادات وأضاحي كما في جميع الأديان، لكنها تميزت عنها بالأضحية البشرية “صحيح أن إبراهيم عليه السلام قدّم ابنه أضحية لكن الإله افتداه بكبش بديلاً يخفف من ضخامة التضحية، ولم يمس سمو الفعل”. لكنها في المعتقد الأزتيكي فعل أرخى في النفوس رعباً لا يضاهى، أرواح تقتل على البطيء ويُمَثَّل بالأجساد، في طقس يستمر طوال الليلة المختارة؛ إرضاء للآلهة ودفعاً لغضبها، ومنعاً لانفجار الكون الذي ينوء بهذه الحمولة البشرية، الكارثة الأكبر التي يتوخاها الكهنة، ففي اعتقادهم أن هذا الكون قد تعرض للانفجار والزوال مرات أربع، والأمر مؤهل للحدوث من جديد، وعليهم كأوصياء على الناس العمل على منع الكارثة.
“وكيف يتم ذلك أيها الكاهن المبجل؟
–  لا يدفع الكارثة من الحدوث سوى المزيد والمزيد من الدماء النقية والقلوب البشرية الطرية الدافئة، لا شيء يزيد من طاقة هذا الكون على احتمال ملايين البشر على كواكبه دورة حياتية جديدة سوى الدم؛ هو ما يؤخر النهاية”.
بهذا المعتقد وعلى هذا الإيمان عاش الأزتيكيون، فاستمر سيل الدماء والأضاحي والقتل بطرق تعددت كل منها يفوق الأخرى بشاعة؛ وقودها الأسرى والعبيد والفقراء وأولئك الذين لا حول لهم ولاقوة.
قد نقول إن هي إلّا عقيدة وطقوس قديمة زالت، وأن الزمن قد عفا عنها، ولكن أليست تعود إلينا بلبوس أخرى، ترتدي أردية مختلفة؛ جميعها حمراء، قد تجاوزت تلك الطقوس ديناً معيناً أو معتقداً وثنياً بدائياً، لكنها جميعها تحدث أمام أعيننا لتؤكد أن دوافع التضحية بالدم البشري وإن اختلفت الوسائل إلا أنها ترتبط كلها في النهاية بسلسلة واحدة تقود إلى نقطة واحدة ومفهوم واضح هو بث الرعب في الأرواح المتبقية الشاهدة على الأضاحي خدمة لبقاء الأقوى، ألا يفتعل من نصبوا أنفسهم أوصياء على البشرية والعالم؛ يفتعلون الحروب على مدار السنين والعقود درءاً لكوارث، قد تطور معناها وتفسيرها، من طقوس مغلّفة بالتخلف والبدائية، إلى وريثتها المبنية على التحليل العلمي، بأن هذا الكون قد ضاق بمن فيه؛ ولم يعد يتسع لنا جميعاً “فلنخترع لهم أسباباً للحروب والكوارث العلمية والثورات المزيفة وليكن ما يكون” وها نحن شهوداً على ما يجري؛ وما يجعلنا نكفر بالثورات والثوار، التي لا تروم لنا إلّا استفاقات على مدن بيوتها بلا شرفات، ورؤوس مفرغة العقول.
بشرى الحكيم