نـاهض حتـــر.. هــل نَعُــضّ علــى الغَضَــب؟
أكاد أجزم أنه ومع صوت الطلقة الأولى كان قد أطلق ضحكة مجلجلة يسخر من قاتليه، بينما الروح رفرفت برضىً؛ وقد أمّحي في قلبه خجل كان يداريه، وهو يشهد ما يجري بحق بلد أحبه وآمن به؛ تقف على جبهة بندقيتها الكلمات؛ يسيل فيها حبره لا الدم في مواجهة الحملة البربرية على الشام:
“منذ طفولتي، لم أفرّق في الحب بين الأردن وسورية؛ هما، عندي، كما كانا دائماً، بلد واحد. ومنذ وعيت، كانت دمشق هي جداري. مرت الحروب والهزائم من كامب ديفيد إلى أوسلو إلى وادي عربة، من احتلال بيروت إلى احتلال بغداد، من دون أن تمس اطمئناني. ما دامت سورية باقية، فكل شيء قابل للتصحيح. لذلك، عندما أحاق الخطر بالبلد الحبيب، تملّكني هاجس النهاية. كان يجب أن تنتصر سورية لكي يبقى للحياة والأفكار والنضال، معنىً، لكي نواصل القدرة على العشق والكتابة، لكي نسمع فيروز في الصباحات، ونعزق فتيت الخبز للعصافير، ونسقي الفل والياسمين، ونقرأ الشعر، ونحس لذّة اليانسون في كأس العَرق. عشيّة النصر، أفكّر في كل تلك الليالي من أرق التوقعات التي توشك أن تنتهي. أفكّر في الشهداء والجرحى، وأخجل لأنني لست شهيداً. غير أن ما يعزّيني أنني أستطيع أن أردّد مع أمل دنقل:
فاشهدْ يا قلمْ/أننا لم ننمْ/أننا لم نضعْ/بين لا ونعم”.
ليست الرصاصات الثلاث من اغتالت حتر، لم يقتله رسم نشره على صفحته الشخصية ولم يقتله دين أو طائفة انتمى إليه “الذين غضبوا من هذا الرّسم نوعان: أناسٌ طيّبون لم يفهموا المقصود بأنه سخرية من الإرهابيين وتنزيه للذات الإلهية عما يتخيل العقل الإرهابي، وهؤلاء موضع احترامي وتقديري، والنّوع الثّاني “إخونج داعشيون يحملون الخيال المريض نفسه لعلاقة الإنسان بالذّات الإلهية، وهؤلاء استغلّوا الرسم لتصفية حسابات سياسية لا علاقة لها بما يزعمون” هو ما قاله حتر إثر الهجمة عليه بعد النشر.
اغتيل بسبب عقيدة انتماء للحق والمنطق؛ وموقف ثابت من قضية كبرى، انتماء وَضَعَه في مواجهة مع الشر، مع إيمان مزيف شوّهَه الجهل، مزود بترخيص إلهي مزيف، لحرّاس الذات الإلهية المنزهة عن حاجات البشر، هل تذكرون ما كان يسمى “محاكم التفتيش” التي تسيَدت الفترة ما بين القرنين الخامس والسادس عشر؛ تلاحق وتحاكم كل من يخالف الكنيسة وتعاليمها، بحجة التحقيق في بدع “الهرطقة والهرطقيين”. ترخيص مزيف أضاء اللون الأخضر لإرهاب تمدد واتسع باتساع رقعة الجهل والتغييب واللاوعي لكل من انضوى تحت لواء حرب ادعت أنها حرب على الظلم “بينما هي في حقيقتها ليست سوى حرب على الحضارة والرقي والإنسانية”.
ترى هل يعلم أولئك القتلة إلى من تتوجه الرصاصة التي يطلقونها، ولِمَ، وبأي ذنب؛ حين “سُئِل عمر إبراهيم، وهو واحد من الخمسة الذين قاموا بمحاولة اغتيال الأديب والروائي الكبير نجيب محفوظ، في نهايات القرن الماضي: “هل تعلم من هو الشخص الذي حاولت قتله؟ هل تعلم من هو نجيب محفوظ؟” تبين أن المدعو عمر لم يعرف مطلقاً من هو نجيب محفوظ! هو لم يقرأ له كتاباً أو قصة أو رواية، لم يستمع يوماً إلى حوار أجري معه على قناة فضائية ولم يقرأ في لحظة وعي “بالصدفة” مقالاً كتب عنه أو لقاء أجري معه!”، بل كان مجرد منفّذ لأوامر أسياده بالقتل أو التفجير أو السحل، أو أي من وسائل الإبادة المعاصرة، أوامر وصكوك إلهية زورها أعداء الإنسانية والحضارة؛ غير قابلة للنقاش أو التفسير، والأمر ذاته لا بد يسري على من اغتال كلمة الحق في شخص ناهض حتر.. لم يختلف عنها بشيء سوى المكان والزمان.
ناهض حتر المولود في الأردن في العام 1960 كاتب وصحفي وناشط سياسي، يحلو للبعض أن يتبعها بعبارة مثير للجدل “ولا جدال في أنه كأي محب حقيقي ومخلص للوطن أثار حفيظة كل أعداء الوطن” خريج الجامعة الأردنية قسم علم الاجتماع والفلسفة، متخصص في “فلسفة الفكر السلفي المعاصر” ويعتبر عرّاباً للحركة الوطنية الأردنية، تعرض للاعتقال والسجن مرات عديدة؛ في الأعوام “77، 79، 96” ولمحاولة اغتيال فاشلة في العام 1998 خرج منها بمتاعب صحية عديدة، واغتراب اختياري بعيداً عن الأردن، له العديد من الإسهامات الفكرية في “نقد الإسلام السياسي” “الفكر القومي والتجربة الماركسية العربية” بينما كان موضوعه الأهم والأحب “دراسة التكوين المجتمعي الاردني”.
من مؤلفاته العديدة:
< دراسات في فلسفة حركة التحرر الوطني
< الخاسرون: هل يمكن تغيير شروط اللعبة؟
< في نقد الليبرالية الجديدة، الليبرالية ضد الديمقراطية
< وقائع الصراع الاجتماعي في الأردن في التسعينيات
< الملك حسين بقلم يساري أردني
< المقاومة اللبنانية تقرع أبواب التاريخ
< العراق ومأزق المشروع الإمبراطوري الأميركي.
نعتذر إليك يا الله على كل ما يرتكب باسمك من جراح وتكفير وتصنيف وقتل؛ ونجزم أن ناهض حتر رحل وقد حقق حلمه أن يكون شهيداً، بينما نقف نحن؛ نعضَّ على الجرح تلو الجرح والألم يتلوه الألم، ونتساءل هل نعضّ أيضاً على الغضب؟؟.
بشرى الحكيم