ثقافة

“هنا.. هنا.. هنا” رسالة الأب زحلاوي إلى سورية القائمة من الموت في الأوبرا

الصليب المقدس الذي أضاء مسرح الأوبرا كان شاهداً على قيامة سورية من قلب الموت، الهلال والصليب كانا تأكيداً على وحدة سورية الصامدة في وجه القتل والتدمير لتبني عالماً جديداً، مستمداً من أرضها المقدسة مهد الديانات السماوية، من حضارتها التي قدمت للعالم الأبجدية الأولى ورسمت علامات النوتة الموسيقية الأولى. سورية التي واجهت عبْر العصور جحافل البرابرة وظلم السلطان كانت المحور الأساسي للنصّ المسرحي الذي كتبه الأب الياس زحلاوي، ويدعو إلى الاختيار واتخاذ القرار بتحديد المصير بالتشبث بأرضنا وجذورنا وسوريتنا “أفلا يكون اختياري، لوكنتُ خُيّرتُ وسُئلتُ: هنا هنا هنا”، وتميّز العرض بإسقاطات واقعية للأزمة التي نواجهها والتي لابد زائلة بقدرة الله، كما قال الأب زحلاوي على المسرح: “سورية منتصرة بقدرة جيشها ودم شهدائها وحكمة قيادتها” بدت واضحة في بعض اللوحات،وقد حوّلت النصّ رجاء الأمير شلبي بالتعاون مع فرقة آرام للمسرح الراقص وأعضاء القسم الجامعي من جوقة الفرح، إلى عرض مسرحي غنائي لافت بإخراج عروة العربي الذي وصفه الأب الياس “بالمبدع”. وشغل الإلقاء الشعري للفنانة ديمة قندلفت مع الرقص التعبيري مساحة كبيرة من العرض.
يعدّ هذا العرض الكبير الذي امتد على مدى ثلاثة أيام -25-26-27 على مسرح الأوبرا نقطة تحوّل في مسار جوقة الفرح، التي اعتادت على تمثيل سورية دولياً وتقديم أغنيات من التراث الديني المسيحي والإسلامي طيلة عقود، لتكون الحامل الأساسي للعرض المسرحي، ولتنشر كلمة الحق في وجه الباطل، عبر مقولة “هنا كان الله، وهنا الإنسان كان.. هنا كان الفكر، وهنا الحرف كان” ولتكون جزءاً من مكوّنات العمل الذي أبدع فيه العربي بتصميم سينوغرافيا، جسدت صور الحضارة العربية والأوابد التاريخية لاسيما أعمدة تدمر بالتركيز على الخلفيات المتحركة وتقطيع المسرح، موظّفاً التقنيات الفنية الموجودة في الأوبرا والتي لاتستخدم في العروض الموسيقية، ليتنهي العرض بصورة المدينة الكبيرة دمشق أول عاصمة مأهولة بالسكان التي كانت وستبقى رمز العراقة والحضارة.
وفي كل عروض جوقة فرح تتألق فنية الإضاءة بشكل مميز كما في عرض “هنا.. هنا.. هنا” لتكون شريكة الفرقة الموسيقية بقيادة رجاء شلبي والتي تميزت بصولو البيانو بنغماته الهادئة إياد جناوي، والتشيللو محمد نامق وصهيب السمان في مواضع، إضافة إلى صولو البزق والناي والأكورديون، وتألقت الآلات الإيقاعية بمشاركة سيمون مريش مع النحاسيات لاسيما في مواضع موسيقا المتتاليات العسكرية (المارش).والأجمل قيثارة الهارب التي مرت على المسرح مثل النسمة الساحرة، وترجمت نغمات أوتارها عشق سورية للحن والسلام. كما فرضت الدلالة اللونية حضورها بين الأبيض والأسود ألوان الحياة، يقابلها الأحمر في مواجهة سواد الموت والقهر.
سفينة الوطن
اتسم النصّ المسرحي الذي كتبه الأب زحلاوي عام 1993بلغة فكرية ذات طابع فلسفي وتاريخي وديني، حمل خطاباً موجهاً ورسالة إلى الشعب السوري للتشبث بأرضنا وهويتنا، فهنا الماضي والحاضر والمستقبل. تحوّل إلى لوحات استعراضية تنبض بالحياة بوتيرة الرقص التعبيري حيناً، والرقص السريع المتناغم مع طبيعة اللوحة حيناً آخر، استُهل بلوحة السفينة التي تدخل المسرح، لتتشارك مع خلفية أمواج البحر والإضاءة الزرقاء وتمايل أعضاء الجوقة ووجوههم نحو البحر بثيابهم البيضاء والسوداء التي ترمز إلى ألوان الحياة، وهم يغنون “هيلا يا واسع”، ثم تبدأ الفنانة قندلفت بإلقاء شعري يشبه الشعر لحكاية الغربة ومعاناة المهاجرين،”وكبرتُ وكبروا يلهثون ليل نهار، لاصديق، لامحبّ، لاجار، سوى الدولار”، وبعد آلام الغربة والحنين كان التصميم على العودة والبقاء في سفينة الوطن التي هي المأوى والملاذ والأمل لجميع أبناء سورية “من كابوس النهاية،عدتُ إلى رجاء البداية، عدتُ إلى حيث كانوا وكنت وسأكون، فمع الله سأكون، ومع الإنسان سأكون، ومع الفكر سأكون،ومع الحرف، سأكون” لفتت هذه اللوحة انتباه المشاهدين لاشتراك قندلفت مع الطفلة الصغيرة سارة الجزماتي بانثناءات وإيحاءات لغة الجسد بلوحة للرقص التعبيري أظهرت قدرة قندلفت على الرقص والغناء.
الحضارة العربية
ومن اللوحات المؤثرة والتي بدا فيها الإسقاط واضحاً من حيث القتل واستشهاد الأبرياء من الجنود والمواطنين في لوحة اشتعال الفتن”فرض وجوده والحديد والدولار، يدعمه عالم اكتسى بالعلم والعار، فطوّع القوانين الدولية،بدراية وقحة وحشية”، لتتكرر الإجابة “هنا.. هنا أختار المصير، لأكون بالوجود جديراً”. ومن اللوحات الجميلة التي تميّزت برقص استعراضي لوحة الحضارة العربية”فانتصبت فوق الأنقاض، حضارات شرقية وغربية وفي القلب منها، كان بنائي الأروع، حضارتي العربية”.
شارك الفنانون كفاح الخوص وروبين عيسى وحلا رجب بسرد المقاطع الأساسية  من العرض، “هنا سأكون” ضمن اللوحات الراقصة، لينتهي بتصميم على البقاء” مع أرضي سأكون، فكوني ياأرضي، معك سأكون أولا أكون”.
دمشق
وبعد العرض الأساسي تغيّر مسار الحفل بتقديم وصلة من التراث إهداء من جوقة الفرح إلى الجمهور، وتميزت برقص استعراضي سريع الحركة، منها:دقوا المهابيج، يا حيّ الله، يا سورية عزك دام، لتتزامن مع خلفية الشاشة الكبيرة لمقطع عرضي يصوّر أبنية دمشق على مدى مناطقها، فكانت إضافة غنية للعرض.
عالم جديد
وقبل فقرة التراث الغنائي والرقص الاستعراض وجه الأب زحلاوي كلمة على مسرح الأوبرا ، أكد فيها على انتصار سورية قائلاً: “باسم الله أجادوا، باسم الله أمطروها مئات آلاف فقط من ملائكة جحيمهم، ثم صلبوها، صلبوا سورية، كما صلبوا من ألفي سنة خلت أعظم أبنائها يسوع، فما كان منها إلا أن قالت: ربي اغفر لهم لأنهم يدرون حقاً ما يفعلون، ولكنهم ما كانوا ليدروا أن يسوع هذا قد قام، وأن سورية توما قامت وتقوم وستقوم، وأنها ستقيم معها عالماً جديداً”.
ملده شويكاني