ثقافة

“لواء اسكندرون.. إلى اللقاء” رسالة إلى الأجيال القادمة

تأخذ مفرداته القارئ إلى عالم شعري سحري مفعم بالمشاعر ممزوج بالناي الحزين وبرومانسية تتقاطع مع جميع رواياته، فتؤكد رواية “اسكندرون لا وداعاً بل إلى اللقاء” للدكتور اسكندر لوقا ابن لواء اسكندرون على النضال لاستعادة اللواء المسلوب وتربط بين مافعله الأتراك وما يفعله الإرهابيون على أرض سورية، تطرق من خلالها إلى فواجع حرب السفر برلك والإبادة الأرمنية، وخطت سطوره آلام الفقد والحرمان، اختزل رحلة التهجير القسري والبعد عن تلك المدينة الوادعة من حدود كيليكيا وجبال طوروس حتى جنوب فلسطين، وأهداها إلى سورية أولاً وإلى أحفاده” حتى لاتبقى قضية اللواء مجرد جريمة اغتصاب أرض خالية من معانيها في ذاكرتهم”
اشتغل د.لوقا على الرواية بإبداع المزاوجة بين الأزمنة في مسيرته مع الحياة التي أمعنت بإيلامه وعذابه بتقنية التكثيف، ليترك المتلقي بحالة دهشة وألم وتساؤل بانتصاره حيث خاض غمار السياسة والأدب على الحياة.
هيمن ضمير المتكلم على المحور الأساسي في الرواية، ليتطرق في بعض المواضع إلى تعدد الأصوات من خلال حوارات مقتضبة بين الشخوص. فعاش السارد صداقة حميمة مع الأرمن في مرحلة ما من حياته فتحدث عن أحداث لامستهم وكأنه منهم، وفي الوقت ذاته كشف عن أسرار حزينة عاشها، وعن قصة حبّ لم تكتمل.

وداع المنزل
بدأت صفحات الرواية برحيل والدته قبل بلوغه التاسعة من العمر لتحل مكانها امرأة أخرى، وتمارس دورها بتربيته مع إخوته، ثم يضع القارئ مباشرة في الحدث في صبيحة التاسع والعشرين من شهر آب عام ،1939ليصف وداعهم لمنزلهم على وقع أصداء طلقات الرصاص في أجواء مدينة اسكندرون وسقوط القذائف، ومغادرتهم دون أن يأخذوا شيئاً من حوائجهم كي لايكتشف أمرهم الجنود الأتراك.
وتابع رحلة الشقاء وصولاً إلى دمشق ليدخل د. لوقا بمسارات الحبكة الممتدة إلى شخوص وحدتهم الأقدار، ويبقى صوت السارد بضمير المتكلم المحور الأساسي، لينتقل إلى إطار حكايات ضمن الحكاية الأولى لتهجيرهم، يتغير مسار السرد بالحوارات المقتضبة بالتساؤلات عن الماضي، ووصول المهجرين إلى باب توما، وهنا دخل بالمفارقات الحياتية والاجتماعية بين حياتهم الماضية ومنزلهم الجديد، ليتوقف من خلال الذكريات عند خطوط المؤامرة والطعنة الأولى عبر اتفاقية أنقرة في عام 1921التي اقتطعت كيليكيا المأهولة بألوف العرب من جسم سورية، تلتها الطعنة الثانية اتفاقية لوزان عام 1923وكما روى السارد فرنسا كانت العامل الأكبر في تسديد هذه الطعنات إلى سورية، أما الطعنة الثالثة فجاءت بيد عصبة الأمم بنظام سنّته في جنيف بالاتفاق مع الأتراك منح اللواء بموجبه استقلالاً داخلياً، ليصل إلى اليوم المشؤوم في 29تشرين الثاني عام ،1939ليتدفق اللاجئون إلى اسكندرون من مدينة إنطاكية هرباً من القنص والاغتصاب. لنقرأ عن تفاصيل ربما لايعرفها كثيرون مثل تشكيل لجنة تُدعى” لجنة التحديد والتحرير”التي كانت أشبه بمحكمة متنقلة مهمتها تثبيت حدود العقارات.

صداقة مع الأرمن
يعود د. لوقا إلى حديث الذكريات بانتقال العائلة إلى حيّ الأرمن –الزبلطاني- الذي يتناسب مع دخل والده البسيط في الوقت الذي لم تستطع فيه الكنيسة تقديم أية مساعدة، وبدأ السارد مرحلة جديدة من حياته بصداقته للأرمن لتتوالى القصص عن قسوة الأتراك على الأرمن والعرب في سياق حقدهم، ليصور بمشهدية سينمائية مؤلمة قتل الأطفال، ثم دخل  بمنعطفات جديدة لأحداث عاشها الأرمن لاسيما الإبادة الأرمنية، فروى قصصاً مؤلمة مثل قصة”أم بوغوص” التي كان طفلها يبكي من الجوع فوضعت كفها على فمه كي لايصل صوته إلى الجنود الأتراك وتحمي بقية أطفال الأرمن إلا أنه فارق الحياة.
في “كمب الأرمن” دخلت الأحداث شخصية ناظار آغا كبير الجالية الأرمنية الذي كان يحاول مساعدة الجميع ولايفرق بين عربي وأرمني، ورغم مرارة الأحداث لم تخل صفحات الرواية من رومانسية حب بين أرميناك وآرتوهي، واعتراف السارد بصداقته لويستر لكنه سرعان ما اعترف بعشقه لها وراء ستار الصداقة، ليمرر الأحداث التاريخية والخوف آنذاك من إمكانية دخول الألمان إلى البلاد حيث سيتمكن الأتراك من متابعة قتل المسيحيين عموماً والأرمن خصوصاً.  وفي شتاء عام 1942سكنت العائلة في حي دك الباب في الصالحية ليتابع السارد دراسته في مدرسة الغسانية في ظل الفقر الذي يلف الأسرة، وتضحية الجدة هيلانة بتناول بضع لقيمات لتترك الطعام للأولاد، في هذه المساحة من الرواية سجل السارد خطوطاً دقيقة من ذاكرته التي تلامس وجدانه بحزن شفيف ممزوج مع حبات المطر التي تشكّل خيوط الماء المثقلة بحبات البرد التي كانت تشعر السارد بوقوع حدث مخيف، إذ خرجت مظاهرة كبيرة تطالب الحكومة بخفض سعر الخبز فأصيب والده ونقله الدرك.

آلام الفقد
في الصفحات الأخيرة من الرواية  أعلن انتهاء الحرب العالمية الثانية ليتزامن ذلك مع الحجز على منزل العائلة، فصادروا أثاث المنزل كتسديد نصف الدين الذي ترتب عليهم وقت الحرب، ومرت السنوات وتوظف السارد في الميرة، لكنه عاد إلى آلام الفقد برحيل الجدة، ليخلص إلى الزمن الفعلي ويتذكر مقولة والده “وداعاً اسكندرون لكن د. لوقا يصرّ على القول”اسكندرون ..إلى اللقاء”
الرواية صادرة عن دار الشرق وقدم لها د. م نبيل طعمة.
ملده شويكاني