رياض الدليمي يشعل لهفة الياسمين
ما الذي يربط بين الرغبة في احتواء العالم وانصهاره في الذات،والشعر كضرورة وجودية..؟.
إنّ النّص الشعري كالذهب الذي لا يؤثر فيه أن يكون مطموراً تحت التراب، منظوماُ، منثوراً، مكنوناً، الأهم – حينما تصلنا – اللذة محمولة على أجنحة فراشة محملة بعبق الياسمين، تتماهى الحدود بين البنية الشعرية المسؤولة عن إنتاج الشعر الإيروسي، والبنية الميتاشعرية عن النظر والتأمل في الشعر ويختلطُ حقلاهما في منطقة رمادية تصدر عنها تلك الشطحات والومضات السوبرمانية الخاطفة مثل تلك التي كان يتفوه بها نيتشه أو المتصوفة في كثير من الأحيان.
كيف لنا أن نتسلق عروش الياسمين للشاعر رياض الدليمي قبل أن نكون في الحاضر؟ أي يجب أن نستدخِل المُثل العليا قبل أن نتعرف على كلمة: “إيروس” والتي تعني غريزة الحياة. حيث يسائل بغداد:
في أَي جزءٍ ستكونينَ؟/قَسّمي الأضلاعْ/بين الأقاليمِ/وقَسّمي الأنفاسَ/بين التضاريسِ
وسرعان ما يتوغل وينتقل بنا من الجزء إلى الكل، ومن كائن لغوي إلى كائن شخصي حيّ، كائن يتقطر غواية، ولكنّه محصّن بالممانعة، فعلينا أن نمتلك في توجهنا إليه وسيلة الغواية للغوص في مكنوناته ودهاليزه وعتمته، وملامسة مستوياته وطبقاته الدلالية.
هنا تظهر الغواية والملامسة:
“دعي جدائلك تغفو على أوتار القصيدة/خذي خاتمي الزمردي/وادفنيه في خفايا المشهد/ولا تنسي (الموقد) وأصابعنا المتشابكة فوق الجمر”.
فالذات الشاعرة تعرض على قارئها الصراع الذي تعيش فيه بين داءين يتقاذفانها مع شعرية من نوع بهي منثورة هنا، شعرية وسير دلالية متفرقة ومبذورة ومبثوثة مثل أثيل ينتعض بماء.
“الدليمي”خبيرٌ في تهشيم السلاسل وكسر حدود الصورة الشعرية وفي نحت تضاريس الجسد، عاشقٌ يضرب قلمه الفذ حيث بلوغ منتهى المعنى الملغوم بقنابل العشق بنيةً وصياغةً وهيكلةً، منتهى التصوير والإيقاع الباطني الشفيف.
إنه الشاعر المغامر الذي يطمح لتأسيس شعرية جديدة سيظهر أثرها على القصيدة الحديثة.
“دعي ليالينا المدججةِ بمتاريسِ/الأحلامْ/تتولى تهشيمَ السلاسلِ/وتطرقُ أَسافينَ البغضِ/لجسدِ العناقْ”.
كل شيءٍّ قابلٌ للمعصية
لم يخبرنا ماهي المعصية إدراكاً منه: الشاعر لا يقول، وإنما هناك بؤر لفظية أو تركيبية هي التي تقول، لكن نراه يحوم على ياسمين المعنى المستحيل، من أجل استفاقة الكائن الرصين كما يحوم النحل على الزهر، يراقب الزهرة في أول المعصية ويرافقها غالباً إلى مخدعها الجميل، إذ لا فرق بين الزهرة والنحلة، والدمعة والقبلة، والفاصلة والنقطة المقذوفة على سطر الكلام، وعصا التعجب المستندة على سر النقطة حيث سر الذات، فكل شيءٍّ قابل للمعصية، إنه يسترد ما تبقى من رؤية الشعر في مسيرته الذاتية، وتتردد هذه الدلالات/المعصيات في قوله:
“وعندَ مطلعِ (الزابْ)/انتظري/اِتركي آثاركِ بواجهةِ الكنيسةِ/وليُراقبُ المشهدَ الطويلْ/لا تقولي (كرادةْ)/(وحيَ البنوكِ)/أو(ساحةِ التحريرْ)/كل شيءٍّ قابلٌ للمعصيةْ”.
هل يمكن للعقل الشعري النيئ أن يكون مصدر شحنات إيروسية إلى العقول/العروش المحيطة به ومركزاً لبثَّ القوى إلى هذه العقول المطبوخة نوعاً ما بالدم الحرام في كراده وساحة التحرير..؟
لا يتردد المعنى في إغناء ذاته لا لأكثر من عرش، سواء في حافات النص ولعبه على أعصاب الزهر والنحل والشمس والقمر، ليعيد بذاكرتنا كيف شبه “أوكتافيو باث” الجنس بالنار الأصلية البدائية التي ترفع اللهب الأحمر للإيروسية، التي ترفع لهباً آخر، أزرق مرتعشاً، هو اللهب القدسي، لهب الحب.. فالإيروسية والحب هما اللهب المزدوج للحياة.(1)
لقد عبّأ الشاعر نصوصه، لهباً مدمجاً مخصباً،منه الغائب الحاضر، ومنه عناصر الإيديولوجية والتثاقف والتوازي بين الـ (أنا) والـ (آخر)، وبعفوية الياسمين مبتعداً عن أي محاولة لعقلنة الحب/الشعر أو إخضاعه لـ “مبادئ الفلسفة” العقلية أو مناهج العلم لأنها محاولة لقتله واغتيال عبقه/فرادته. فالعروش/الجذور/التلافيف التي تصلّبت في مساراتها مازالت تنبضُ بين ليل وفجر بفعل الشرايين التي يبثها فيها براءة العقل الشعري، لأنه المسؤول عن الانزياحات المهمة التي تحصل في العقول الأخرى، وهو المسؤول بالتالي عن الإبداعات الإيروسية التي تنتج عن هذه الانزياحات، وهو ما جعل الشاعر ولعاً ميتاً جمالياً يضربُ بعيداً في المدهش والمغاير واللامعقول واللاموجود، وهو الزبد الذي يلفنّا والذي راح “جاك دريدا” يراه اختلافاً، ولعل “الدليمي” يسترد ما تبقى من أحلامنا الضالة في مسيرته الشعرية.
هل دخل الشاعر مملكة الياسمين في لحظات من التصدّع النفسي تحت وطأة الهزيمة في الحبّ والحياة..؟
لم يلجأ “الدليمي” في تجربته الشعرية إلى أي لعبة أو تقنيات غربية غريبة عن طاقته الشعرية الداخلية، تلك الخلاقة لأنها العفوية، إنما غَرفَ فحسب من عمقه الإنساني، من بئر وجدانه الثري، فظهرت عروشه الياسمينية بتعريف مالارميه:”حدثٌ في اللغة”وبذلك أوجدت لنفسها طريقها وأسُسها، أوجدت لنفسها ركائز ودعائم الكتابة الشعرية، لذلك هي بعيدة كل البعد عن أي تفلسف تنظيري. فهي أسس ودعائم غَرفَها الشاعر من كونية رؤيته إلى الشعر والى العالم، إنها أدوات لغته هو، ولنصغِ قليلا إلى ما يأتي:
تَسَلَّقي عُروشَ الياسمينْ/توشَّحي بالوسامةِ/تَسَلَّحي بعطرِ الياسمينْ/أَنثرّي شَعْرَكِ كأن (الساعةْ) الآنْ/كلُ شيءٍّ مُخلدْ.
جاءت عروش الياسمين/النصوص، متعدّدة، آخذة من كلّ أطراف الإنسان والكون، مائيّة سماويّة، فراتية، إنسانيّة، مفتتنة بسحر الحبّ الأوّل، ذاك الحبّ البدائيّ في كماله، الوثنيّ في حسّيّته، الأسطوريّ في قدسيّته، الدّيني في تماهيه والعقيدة التّوحيديّة الواصلة بين الإنسان والله، تلك الصّلة العشقيّة الحارّة المستعرة التي يتماهى فيها الماء والنّار، وبعض الظّمأ يكون للنّار، وكل الارتواء يكون بشفاه النار.
انطلاقا من هذا اللهب الإيروسي ينطلق الشاعر وهو يجسد أناه الساردة في الآخر/المعبر عنه بقوله: سأحتفلُ بحضوركِ/في عيدِ الهويةِ/سَنُعَبئ الوطنَ/أَنفاسَ دخانْ/ونَسْتَنشقُ رمادَ العدمْ/لَحْظةِ الصفرِ
مدّنا العنوان بزاد ثمين، وينطوي على صيغة استفهامية بأسلوب الأمر “تسلقي عروش الياسمين” ليفتح أمامنا الآفاق البعيدة على ما يبثّه هذا العنوان الانزياحي من مجالات، كالمصير، والنهاية، والموت الذاتي والإبداعي.
ولابد من الإصغاء لما يلي قليلا:
“في صومعةِ الروحِ/أَمْزِجي البياضَ بالسوادِ/ كي تَشْتعِلَ أُضواءُ اللهفةِ”
لا يمكن للإنسان القبض في شيئين: العبق والضوء، مما يأخذنا للانتباه أن اللذة الجنسية ليست مقيدة بالجسد، كما يعتقد بعضهم، بل هي لذة الخيال. وبهذا تصبح عروش الياسمين السخية رمزاً للتعالي على الجراح، وتجسيداً لانتصار الحياة على الموت، يتحول البوح إلى مرايا تعكس ما يدور في الذاكرة الحيّة، وتبقى الأسئلة مشروعة حول طبيعة هذه الأنثى التي يأمرها “تسلقي عروش الياسمين”: أهي أنثى عادية أو أنثى فوق عادية..؟
قدّيسة متخفيّة تشاركه ممارسته الإيمانية بوجود “عالم خفي”نحسّه لكن لا نراه، ولكن غصناً واحداً من عرش الياسمين كفيل باحتواء إشراقات البياض من حبر الدليم. هل هنا يكمن البعد الروحي للشعر أو شطحات الصوفية تشرق بمتعة الإيروسية ولذة الياسمين؟
هاهي فراشاتنا حائرةٌ تحط على خوذ ة معدنية/تركت في عراء الساحات/مجهولة المصدر/وعباءةٌ سوداء/يشك إنها لامرأة اعتادت عبور) جسر الشهداء.
أحلام غانم