ثقافة

“العازفون الثلاثة” غناء الألوان عند بيكاسو

يرى “غوتة”-1749-1832- بأن جميع الفنون رغم خصوصيتها الشديدة، تسعى لأن تصبح موسيقى، الأمر الذي أدركه بحدسه الفطري والفني أولا، حتى قبل أن يسمع ب “غوتة” الفنان التشكيلي العالمي “بابلو بيكاسو”-1881-1973-وها هو يقف أمام القماش الأبيض، يعمل على واحدة من بواكير أعماله، التي تنهل من معين المدرسة”الفنية التكعيبية”يعزف اللوحة المثيرة للعديد من الأسئلة “العازفون الثلاثة” وفقا لطبيعة “التكعيبية” -المدرسة التكعيبية، التي كان بيكاسو من روادها ومطوريها، بدأت بالظهور مع نهاية الألفية الأولى -1908- وتعتبر أضخم انتفاضة ثورية فنية عرفها العصر الحديث، وهي باريسية النشأة ظهرت في أعقاب المدرسة “الوحشية”، بمثابة رد فعل على نظريات هذه المدرسة وعلى النزعة التعبيرية، وهي تتجه بعمومها نحو التحرر من الشكل، وكان “ماتيس” من أوائل المعجبين والمنظرين لها-، فالمايسترو الذي ذهبت الألوان لتنفيذ قطعته الفنية “التشكيلية- الموسيقية” البديعة، جعل من اللون بمثابة نغمة، ومن الخطوط المستقيمة، بمثابة جمل موسيقية طويلة ومتغيرة حسب المزاج الشخصي للفنان، الذي يلعب بالألوان تارة وبالشكل تارة، حتى يكاد من يرى اللوحة، يصغي للموسيقا العميقة، المنبعثة من بين خيوطها، فالناظر إلى اللوحة الآنفة الذكر، سيلاحظ الأثر الموسيقي الذي كان يتقافز في صدر “بيكاسو” وبين أصابعه، ثم ينعكس ألوانا باذخة الدفء، وهو يرسم واحدة من أولى لوحاته التكعيبية.

استخدام مبدع “غرونيكا” الأسلوب التكعيبي في لوحة “العازفون الثلاثة”، يعطي الناظر انطباعاً بأن أبعاد اللوحة ثلاثية، وأن أجزاءها المرسومة تبرز منها وكأنها موضوعة على اللوحة لا مرسومة فيها، كما سيلاحظ أن الخطوط المستقيمة المصطنعة هي السمة الأساسية للوحة وللمدرسة التكعيبية عموماً، وهذا يدل على الرسوخ والثبات، كما أنه يعطي طابعاً صناعياً بعيداً عن عشوائية الطبيعة، وربما كان هذا لأنه في تلك الحقبة أصبحت أنظار الناس تصطدم بالأشياء المصطنعة التي احتلت مساحة الرؤية في كل مكان، وصارت المدينة والمدنيّة هي القطب الذي يجذب إليه البشرية جمعاء، وغدت الطبيعة شيئاً بعيداً غريباً غير مألوف، وسيرى الناظر أيضا في تلك الألوان التي تغني على قماش، كيف تصنع الخطوط المستقيمة حدودَ اللوحة من الداخل بشكل قسري،وهذا يجعلنا نستذكر فورا “الحدود المصطنعة” التي ظهرت في تلك الحقبة وغزت مناطق العالم حتى وطننا العربي، وقسمته قسرياً إلى دول مصطنعة، مواطنوها منتجات تباع وتشترى، الخلاصة أننا لن نجد أبدا مكعّبا في الطبيعة.

الألوان تمت صياغة “نوتاتها اللونية” بالألوان الخريفية المُكتئِبة حينا والمُفرِحة مع ذلك، والتي تعطي دفئا ينتشر عبر شبكية العين إلى أطراف الجسد، ونرى وجوه شخصيات اللوحة خلف أقنعة وكأنهم يخفون “سَوْأةً” ما، أو يخفون كآبتهم، أو ببساطة يُخفون شخصياتهم! حيث أن البعض في العديد من المجتمعات متنوعة الجنسية، كان يعتبر ممارسة الموسيقى،عيباً يستدعي عقاب ممارِسيها، وربما عقاب الشهود الذين يستمعون إلى ممارِسيها-دعونا نستحضر ذكرى أبو “خليل القباني”-1833-1903 هنا، للجرأة والإصرار اللذين كانا وراء صنعه فنه الجميل، الذي تسبب الغناء فيه إلى جانب “التشخيص” بحرقه-وربما ارتدى هؤلاء الرجال أقنعة في اللوحة، لأن “بيكاسو” لا يريد منا أن ننظر إلى لوحته، بل أن نستمع إليها،وكأنه فعلا يحاول أن يحول فنه إلى موسيقى، كما لو أنه خيميائي! ومن المرجح أنهم يرتدونها خوفاً من برودة ذلك الزمن، الممتدة إلى الآن، غير عالمين أن الوجوه لا تَشعُر أبداً بالبرد بل تُشعِر به ونرى كلاً من العازفين يحمل آلة مختلفة عن الّتي يحملها الآخر، فالأول يعانق غيتاراً والثاني يقبل ناياً والثالث يمشط شعر كمان، ورغم عدم وجود “امرأة” للأسف داخل إطار اللوحة، خصيصا وأن بيكاسو من أشهر التشكيليين الذين تفننوا في رسم المرأة بمختلف حالاتها المزاجية سواء تلك البديعة، أو تلك المحرضة، حسب الناظر وما يراه، لكن خلو اللوحة منها كان سمة هذه العصور التي تحاول إخراج المرأة من “الصورة”،إلا أن”بيكاسو” يقول عبرها أن الاختلاف هو التكامل، حيث مع قليلٍ من التنسيق سيكون لدينا لحن متناغم مهما اختلفت الآليات والآلات والطرق، وأنّه بالاختلاف وحده تُعزف سيمفونية الكون وتُطرب الإنسانية لها ومنها وفيها.

تمّام علي بركات