ثقافة

“كأنو مسرح”.. احتفاء بستارة الأمل

في قلب المعارك والحروب ورغم الألم يبقى الأمل متواجداً دائماً بولادة أبناء جدد، وبالتأكيد سيعم السلام براياته البيضاء وستُغسل القلوب ناهية كل الكره والحقد والدماء التي لوثتها” هي رسالة أرادت كاتبة مسرحية “كأنو مسرح” لوتس مسعود في تجربتها الكتابية المسرحية الأولى الذي يمثل لها “النفس الأخير وهو الأول في عالم الكتابة المسرحية” كما كتبت في كلمة العرض.

تدافع خلال فترة العرض -التي استمرت على مدار أسبوعين- أشخاص فاض المسرح بهم والحشود المكتظة كانت كافية لتحريك شعور الفضول لحضور المسرحية، وفي نهاية العرض كانت الخشبة كفيلة بتحرير سؤال “لماذا؟”، إذ ينتهي العرض بظهور الطفلة ليا شموط بمشهد يتيم تلبس فيه فستاناً أبيض وتجر خلفها كفناً ينهي حالة الألم والصراع وتعلن ولادة سورية من جديد، فهي كانت دليل الاستمرارية والانتعاش الذي سينهض بالفن الراقي وخاصة أبو الفنون المسرح وبالثقافة السورية التي لطالما اعتدنا عليها، والدليل أنها اختارت دور المخرجة “ليلى” التي حاولت بكل جهدها جمع أبطال عرضها المسرحي على خشبة واحدة رغم اختلاف وجهات النظر بينهم في كل نواحي الحياة وخاصة على الصعيد السياسي.

مسرح للمشاغبين

“كأنو مسرح” وكأننا أمام مسرحية “مدرسة المشاغبين” مع تغيير بسيط في العنوان ليصبح “مسرح المشاغبين” واختلاف وتباين في احترام وتقدير مخرجة العمل “ليلى- ديمة قندلفت” وكأنها المربية الفاضلة حيث لا يستطيع أي أحد من الأطراف إزعاجها، بل على العكس هي نقطة الضعف أمام أبطال مسرحيتها، فهي تمثل الوطن الذي لا يستطيع أحد إلا وأن يقف تحت سقفه رغم كل ما تمر به من ظروف، فيبقى هو المكان الآمن مهما حاول العديد تركه أو استبداله أو الاعتراض على طريقة العيش فيه. “ليلى” أو “سورية” التي استسلمت في النهاية لوجع هذا الحال الذي أصابها، هي بمثابة الأم التي فقدت أبناءها الذين تفرقوا فمنهم من بقي ومنهم من سافر ومنهم من قاتلوا ضد أخوتهم، فتضطر لإلغاء مسرحيتها الواقعية لعدم استيعابها هذا الكم من الحقد والكره تجاه بعضهم، وعدم قدرتهم على ترك أمورهم الشخصية لتقديم عرض مسرحي مميز –مسرح ضمن مسرح- يحكي الواقع الحقيقي بما فيه من سواد وحزن وألم، أرادت إيصال رسالة تهدف إلى ضرورة تعايش السوريين مع بعضهم وإلغاء أحقادهم، فالتعنّت في الرأي سيؤدي إلى انهيار أكبر في المجتمع ولن يكون نهاية هذا الخلاف هو سلام حقيقي. قالت “ليلى” بكل قهر ووجع: “تعبت من أني آخد كيماوي، تعبت من أنو يكون بجسمي دوا من كل الدول العربية والأجنبية” هي حال سورية التي حضرت إليها كل الجنسيات ليحاربوا ضد شعبها، رغم بحة صوت “ليلى” لم تستطع إيصال الوجع الذي أصابنا منذ سنوات بسبب أداءها الذي لم يكن على درجة عالية من التوقع مثل ظهورها على الشاشة الصغيرة، ومن الواضح أن خشبة المسرح غلبتها.

ألوان مختلفة

رغم كره “رام –محمود نصر” للعمل في المسرح إلا أن أي عمل فني سواء سينمائي أو درامي أو مسرحي لا يمكن أن يكون متكاملاً إلا بموسيقاه، فالموسيقى هي غذاء الروح، وكما يقال: “حيث توجد الموسيقى.. لا يوجد أشرار… نعم الأشرار لا يسمعون الموسيقى”، وبالتأكيد في ليالي عرض مسرحية “كأنو مسرح” للمخرج غسان مسعود لم تسيطر الكآبة على خشبة المسرح فالكوميديا كانت حاضرة وبقوة وكأنها البطلة، فقد استطاع الثلاثي (لجين إسماعيل- أيمن عبد السلام- مصطفى المصطفى) بألوانهم المختلفة تحويل خشبة المسرح إلى مكان يجمع خلافات جذرية في الحرب شهدها العديد من الفئات والشرائح الاجتماعية لتكون بمثابة محاكمة علنية تطرح ما آلت إليه الأوضاع، وما جرته من خيبات وضغوطات الحياة، بطريقة لا تخل من الضحك فالمؤيد “إياد- لجين إسماعيل” المدافع عن قضيته والتي يراها من وجهة نظره في أن التضحية في سبيل الوطن وتكريم الشهداء هي من خلال الاعتناء بأرامل الشهداء، والمعارض “عبد الله- أيمن عبد السلام” الذي أعطى الوجه الآخر للقضية بطريقة ساخرة حيث كانت ضحكته هي البطلة بعيداً عن أدائه الصغير، ويبقى “قيس- مصطفى المصطفى” المثقف النخبوي المحايد في المنتصف يستمع للاثنين دون إبداء أي رأي يستطيع به تغيير مسار النقاش الذي كاد أن يودي بحياة الشخصيتين. في الواقع، هي رايات رُفعت على خشبة المسرح وبمثابة تمثيل لتجار الأزمة الذين يتلاعبون بمصائر الناس إلا أن خلفها أعمال سيئة وقميئة فهم يطرحون أقوال دون أفعال.

مسرحة الواقع

كان المسرح مختبراً لنقاش عميق بين هؤلاء رغم ارتفاع وتيرة الصوت، ووصول المشاحنات إلى درجة اشتباكات حقيقية، إلا أن المسرح الثاني “سلمى- روبين عيسى وعايدة- نظلي الرواس وياسمين- راما العيسى” مثّل حال النساء السوريات اللواتي ما إن يخلعن لون الحزن إلا ويعدن بعد فترة قصيرة ليلبسنه، مثلنَّ الواقع السوري بكل احترافية، إلا أن الفنانة المبدعة روبين عيسى أعطت للمسرح رونقاً مميزاً برشاقتها على الخشبة، فهي المرأة المتوترة جداً من أفعال زوجها الذي تزوج من أمرآتين غيرها، وبأدوار ثانوية بسيطة استطاعت “عايدة وياسمين” تمثيل جزء من المجتمع الصامت والمسجون داخل حيطان منازلهم.

لنا كلمة

لم تذهب ساعات الانتظار على شباك التذاكر سدى، فقد استطاع المخرج غسان مسعود إعادة الرونق والألق إلى المسرح من خلال إدارته لحركة الممثلين وانتقالهم من مسرح إلى مسرح آخر ونحن في المسرح بطريقة إبداعية، فشكراً لمن أضاء ليالي الأعياد بفرحة فنية مميزة.

جمان بركات