“النُعَيريّة.. قريتي”.. صفحات من حياة شاعر العروبة
ثلاث سنوات ونيف مرت على رحيل شاعر العروبة الشاعر سليمان العيسى، وخلالها أُقيمت فعاليات متعددة لذكرى رحيله تخللتها أفلام توثيقية تعرض مراحل حياته، فأسرني هذا كتاب “النعيرية..قريتي”، الذي أعدّته د. ملكة الأبيض وشارك في كتابة الفصل الأخير منه د. نزار بني المرجة، من سلسلة الشعر الصادر عن اتحاد الكتّاب العرب، وقد جمع بين الشعر والنثر، وتميّز بوصف شجرة التوت رفيقة الشاعر في طفولته التي أوحت له بأسئلة غامضة لايعرف كنهها، وهو في العاشرة من عمره، تتمثل بالآغا الذي يملك الأراضي وحده، ليجد نفسه بعد سنوات قليلة إزاء المؤامرة السوداء لاغتصاب اللواء والتهجير من “النعيرية”.
شجرة التوت التي وصلت حفنة من ترابها إليه في أيامه الأخيرة تشدّه إلى زمن مضى كانت شاهداً على إبداعه الذي خلّده التاريخ، وكانت القاسم المشترك بين الفصول التي اتصفت بسمة السرد بلسان الشاعر، ورغم أن الأحداث والحكايات تقاطعت بين الشعر والنثر، إلا أنها تفرض سطوتها على القارئ بجمالية الوصف ودقة التعبير المتعلق بكل فنّ على حدة.
وقد اختارت د. ملكة الأبيض المسلسل الشعري “أحكي لكم طفولتي ياصغار” وقصة طويلة عن الطفولة بعنوان”وائل يبحث عن وطنه الكبير” ليكونا محوري الكتاب اللذين كتبهما بعد صمت طويل ألّم به إثر ما عصف بالأمة العربية من أزمات، فعاد إلى الطفولة إيماناً منه بدور الأطفال في المستقبل.
حلقات شعرية
في الفصل الأول تتالت حلقات “أحكي لكم طفولتي يا صغار” واتخذت سمات المسرحية الغنائية من خلال أناشيد طويلة تشبه الأوبريت الغنائي، على لسان البطل الطفل إياد في سن الطلائع الذي يتكلم بلسان الشاعر، فتتتالى الأحداث من خلال الحلقات باشتراك جوقة الأطفال في بعض المواضع، ليغنوا عن بيت الشاعر قرب مصبّ العاصي، وعن أبيه الشيخ أحمد الذي يعلم الأطفال، وعن أمه القروية الطيبة الرائعة، وعن أجواء الضيعة، إلى شجرة التوت” التي تشبه المروحة الخضراء.
ظلم الفلاحين
وينتقل الشاعر إلى الأوضاع الاجتماعية التي يعيشها الفلاحون وحلمهم بالمطالبة بحقوقهم وتحسين أوضاعهم المعيشية لتتضح النوازع الإنسانية لدى الشاعر التي تفجرت فيما بعد، وانطلقت منها مبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي.
“كل ما فوق الثرى/كل ما تحت السماء/من عمارات ودور/من قلاع وقصور من حقول ناضرة/وثمار فاخرة/هو صنع الفقراء”.
وصف العاصي
وكما قال الشاعر: “إن النثر الذي يحمل أجنحة الشعر، يظل أكثر حرية”، فامتدت صفحات قصة “وائل يبحث عن وطنه الكبير” بحضور وائل الذي يمثل شخصيته مع مجموعة من الأشخاص الحقيقيين ارتبط معهم بعلاقات حميمة مثل أبيه ومدير المدرسة الشيخ صالح الغانم والأستاذ زكي الأرسوزي وكمال- وهو الشهيد اللوائي الشاب كمال مقنص- فمضت صفحاتها بلغة سردية محمّلة بالمفردات الشعرية وبإسهاب بالوصف الجميل للمكان والزمان، يعبّر عن دقة التعبير كما في وصف العاصي” يهدر شتاء كأنه عملاق جبار وتعلو مياهه حتى تغطي حافتيه، وتهدد البساتين والبيوت المجاورة بالغرق، وينساب في فصل الصيف رقيقاً”.
الوحدة العربية
والأمر الجميل في القصة هي الروح البطولية التي فجرها الشاعر بين أقرانه حينما حاولوا تمثل شخصية الفاتح العربي العظيم عقبة بن نافع الذي وصل بجنوده إلى بحر الظلمات- المحيط الأطلسي-، فكان هؤلاء الصغار جنوداً مغاوير يشهرون أغصان التوت مستعدين للشهادة في سبيل كلمة واحدة يقولها بطل. ليتوقف الشاعر عند ذهابه إلى المدينة والتحاقه بالمدرسة ولقاء المثقفين في نادي العروبة، ليكون بداية طريق الكفاح مطلقاً شعار”تحيا العروبة..تحيا الوحدة العربية” لكنه وجد نفسه إزاء مؤامرة اقتلاع بلده من جسد الأرض العربية” كانت مخالب الشرّ أقوى كان وطن وائل الكبير مجزأً ممزقاً، يرزح تحت الاحتلال الأجنبي ..والخلاص هو الوحدة”.
حفنة من تراب
أما الأوراق الأخيرة من الكتاب فكتبها الأديب د. نزار بني المرجة واستهلها بقصيدة شعر بعنوان “التراب العشيق مهداة إلى الشاعر:
أبانـــا الـــــذي صـــــاغ وهــــج الكــــلام
وشـــــق الـــدروب لنُعلـــــي النــــــدا
ثم تابع عن قرية النعيرية التي احتفت بشاعرها العربي الكبير سليمان العيسى، في التاسع عشر من شهر شباط عام 2010 بدعوة ومبادرة مشتركة من الأديب د.محمد قرصو رئيس فرع أنطاكية لاتحاد الكتّاب الأتراك، ورئيس بلدية النعيرية، وعدد من الأدباء السوريين منهم د. نزار بني المرجة ود. علي عقلة عرسان، وتابع د. بني المرجة مجريات الاحتفال حينما استمع الأهالي إلى كلمة الشاعر المؤثرة بالصوت والصورة المعروضة على الشاشة الكبيرة، وتتالت الكلمات من رفاق دربه، والأمر المؤثر زيارة وفد الأدباء السوريين منزل الشاعر في النعيرية، لتشهد هذه الزيارة على رحلة عمر الشاعر حينما قام د. بني مرجة مع ابنتي شقيق الشاعر(سهام وسميرة) بجمع حفنة من تراب شجرة التوت الكبيرة وإحضارها إلى الشاعر، فكانت أجمل هدية رافقت الشاعر في أيامه الأخيرة، وقد وُثق الزيارة بصور ضوئية لمنزل الشاعر ولأقربائه وللحفل في الساحة والتكريم. جاء الكتاب في “248” صفحة من القطع الكبير.
ملده شويكاني