ثقافة

بصمـــة

ليس فينا، معشرَ البشر، من هو كامل خَلْقاً وخُلُقاً. وتختلف درجات الجودة والحسن من شخص إلى آخر؛ بل قد تتحوّل لدى الشخص نفسه خلال مراحل عمره، أو بين زمن وآخر في المرحلة الواحدة؛ حتّى إنّ ما يعدّ معايير للقياس، يختلف حسب المجتمعات والأشخاص؛ وإن كانت هناك قواسم مشتركة عالميّة، أو تُعتَمد على نطاق واسع من قبل نافذين، في مجالات عدّة.
وتستغرب أحياناً فوز إحداهنّ بلقب للجمال، أو تبوّؤ أحدهم منصّة التتويج في المجال ذاته؛ لأنّك لا ترى فيها أو فيه ما يسوّغ ذلك؛ كما أنّ من تفضّلها أو تختاره من بين المتسابقين، قد لا يحوز الدرجات المطلوبة للفوز أو للظهور المميّز، وقد لا يوافقك على خيارك أقرب الناس إليك.
ومنّا من لديه ملَكات وإمكانيّات يُغبط عليها؛ وقد لا يستفيد منها، كما يجب، أو لا يستثمرها كما يمكن ويُفترَض، مع احتمال أن يضيعها، أو لا يعرف قدرها؛ وتلعب  الثقة بالنفس والإرادة والشجاعة أدواراً في الوقوف على حقيقتها، والسعي إلى استثمارها.
وهناك آخرون يبذلون جهوداً جبّارة للوصول إلى إمكانيّات يفتقدونها، أو يستهلكون كثيراً من الوقت والطاقة في التغلّب على مصاعب وعثرات، لا يتحمّلون أوزارها ومسؤوليّاتها. وفي الوقت الذي ينتشي بعض البشر بما لديهم من ملامح وخصال، ويصولون في مدى إشعاعها، يجْنون ويتنعّمون، يكون سواهم في أشدّ حالات الضيق والعناء من جرّاء حالات فيهم، تسبّب عجزاً أو نقصاً أو قصوراً، وينتظرون من يلتفت إليهم للمساعدة في التعويض عن ذلك؛ ما يخفّف عنهم، ويجعلهم يعيشون الحدود الدنيا المقبولة للعيش أو للحضور.
وكثيرون ممّن يعانون من مثل هذه المشكلات، يستسلمون لتبعاتها، ويقعدون أو ينبتّون عن المشاهد الحياتيّة؛ يتوسّلون، أو يتسوّلون مساعدة أو التفاتة أو هبة؛ فيما عديدون منهم استطاعوا أن يحوّلوا تلك الحالة المَرَضيّة الخَلْقيّة أو الطارئة، إلى معنى مختلف، وذلك العجز في جانب من جوانب الحاجة الجسديّة أو النفسيّة إلى إنجاز شخصيّ ومجتمعيّ وإنسانيّ.
وهُؤلاء، في الوقت الذي تجاوزوا فيه حال الأسى والضعف والاستكانة والوجع والقنوط، إلى حال من العطاء والإنتاج والحضور المثمر، فهم قد تحوّلوا إلى أمثلة للإنجاز، وعنوانات للنجاح، توجّه إليهم الأضواء، وتثار حولهم الحوارات والندوات، وينالون الجوائز والأعطيات، التي لا يصل إليها كثير من الأصحّاء.
وهم في سعيهم هذا، ونجاحهم ذاك، جعلوا من علامة النقص لديهم علامة للتميّز. وصارت حالهم تُذكر في معرض الإشادة، والدعوة إلى التمثّل؛ بدلاً من أن تكون عرضاً لعنصر عاجز يستدرّ العطف والشفقة، أو عالة على نفسه وأهله ومجتمعه..
في حين يقعد آخرون، لا يعانون النقص في قدراتهم، والضعف في عناصرهم المنظورة، ولا تعوزهم إمكانيّة للحركة والاجتهاد والتحصيل، بلا حول ولا قوّة، ناطرين الفَرَجَ من السماء، أو من الأرض، شاتمين الظروف والحظوظ والظلم (الذي لا يمكن نكران وجوده بشكل أو آخر) أو يقفون مواقف طالبي الحاجات الملحاحين، ويتسابقون إلى الأعطيات والمساعدات، ويرتضون لأنفسهم ما لا يليق بشخصيّاتهم ولا بإنسانيّتهم.
إنّ الذين يتعالون على مصائبهم، وينكبّون على ما تبقّى من إمكانيّات لديهم، وما يمكن أن يستنهضوا منها، ويسعون، بتفهّم ورضا وقناعة، إلى أن يكون لهم مكان ومكانة في القوم؛ منتجين، متحفّزين إلى أن تكون لهم أحياز منظورة، وإبداعات مشهودة- يمثّلون عنوان الكفاح الإنساني، والعطاء كامل الفائدة مادّة وحالة، وهم يجسّدون عنوان الحياة الجديرة بأن تعاش بحقّ وكرامة. وحريّ بنا، أن نساعدهم في توفير ظروف عملهم، وتأمين العناصر التي يحتاجون إليها، في توجّهاتهم التي توافق حالاتهم وطاقاتهم؛ فهم قد حوّلوا العلّة إلى حافز، والمصيبة إلى بصمة؛ وحقّ لهم الاحترام والتقدير والشكر والعرفان.

غسّان كامل ونّوس