في رحيل مروان قصاب باشي.. الفن ليس مجرد جمال سابح في الفراغ
لن تكتسب أي تجربة فنية صفة العالمية ما لم تكن هذه التجربة مخلصة لواقعها وممثلة لمحيطها الذي نبتت فيه ونمت محملة بتربة هذه النشأة والطفولة المبكرة، ومهما تقدم العمر في هذه التجربة يبقى الحنين يشاغلها ويأخذ بها نحو البدايات الأولى.
ترتسم الصورة في المنطقة الواقعة بين باب الجابية وباب السريجة هذه الأحياء العامرة بروح دمشق التاريخية، وفي أحد بيوتها تسكن أسرة متوسطة الحال وأكثر قليلاً، يغني المكان شجرة النارنج وبحرة ماء ونوافذ عالية الارتفاع وفسحة من الروح تتماشى مع قنطرة البيت. هنا رسم مروان أبيه على سجادة الصلاة.. ويرسم برفقة صديقه نذير نبعة ، ويزور مرسم الفنان نصير شورى الذي يكبرهم سناً، هذه الميول للرسم والأدب بداية الرحلة التي امتدت لسنوات طويلة يقضيها، ومن ثم يعيش مغترباً في برلين وباريس يحصد النجاح والغربة والخبرة في تلك البلاد، لكن الشام تبقى المدينة الأثيرة والملهمة للفنان الذي لم ينقطع عن طفولته وثقافة الشرق المعبأة في نصوص الحلاج وابن عربي، والشمس التي افتقد بعض نورها في برلين الباردة في عاطفتها والغنية بفلسفة التعبير والموسيقى واضطرابات النفوس التي خرجت من حرب مدمرة انعكست على ذهنية وفنون أهل البلاد، ولا ننكر اندماج قصاب باشي في المجتمع الجديد الذي احتفى بالوافد الشرقي واهتم برسوماته ونجاحه في مجاراة تلك التعبيرية الألمانية حتى أصبح أحد أساتذة جيل من الفنانين التعبيريين الألمان الذين ساروا على خطى مونش وغيره من الرواد الألمان.
التنقيب في الملامح
يحتل البورتريه الاهتمام الأوسع في سيرة الفنان، وقد شبه الوجه الإنساني بالأرض المنقوبة، فالفلاح قبل زراعته الأرض يغير من ملامح قشرتها بحراثة التربة ليتمكن من زراعتها، وكلما كانت الحراثة طيبة كانت النتيجة موفقة، بهذه المقاربة يعمل مروان على جغرافيا الوجه مكتشفا بالتنقيب وتحميل التعبير والخوف.. كان وجهه الجميل ذو الملامح الدمشقية أول ما يخضع للتنقيب، بورتريه شخصي يؤلفه نزوع نحو الخروج أبعد من ذاته المثقفة وأعمق منها، لا ترحمه ضربات اللون الكثيفة والمتتابعة من تشكيل ملامحها الحقيقية التي ينشدها الفنان، وهي الغارقة في الغربة والانفصام بين الذكورة والأنوثة، يضعها في حيز الحقيقة والالتزام بها، يجردها من كل فيزياء التخفي والمواربة، صافعة لرائيها متهمة إياه وواقعة عليه، كأنه يرسمنا في انكماش الفسحة التي نستحق من كرامة وهواء، يجسد هذه الوجوه المنهوبة بعاطفتها وتوقها نحو الخلاص من العقل البارد ومن سلطة أنهم بشر ينتمون إلى التراب والدم واللغة. ومن اضطهاد الوقت وعداوة الواقع الثقيل والاغتراب فيه.
أكثر من ثمانين عاماً، ستون منها مغترباً، جنسيته الألمانية لم تلغ جذره السوري ولا شجرته الوارفة الظل في بلاد الآخرين، يصح أن نقول هنا أن النارنج يعيش في بلاد ليس منها.
صداقته أثمرت كثيرا مع عبد الرحمن منيف الذي رسم أكثر من بورتريه لصديقه الكاتب والذي كتب عنه: “ينتمي مروان لنوع نادر من الفنانين الذين يؤمنون بأن الفن ليس مجرد جمال سابح في الفراغ، بل هو فعل أخلاقي يربط المتعة والفرح بالحقيقة”.
أكسم طلاع