ثقافة

“ تفل قهوة”.. ليس كل ما يلمع.. مسرحاً

لم يكن من السهل على المسرحيين السوريين الموجودين في البلد ولم يغادروها كما فعل كثر، أن يكون افتتاح الموسم المسرحي الذين هم صناعه عادة، بعرض زائر من لبنان “تفل قهوة” تأليف “هيثم الطفيلي” إخراج “د. هشام زين الدين”، إلا أنها خطوة تحسب لوزارة الثقافة السورية في استقدام عروض مسرحية خارجية، رغم تذمر أغلب المشتغلين في المسرح المحلي من حال المسرح وحال أهله المتردية والتي لم يطرأ أي تغيير يذكر عليها من خطوات، اللهم إلا ما يزيد حنق مسرحيينا وشكواهم، من كونهم مهملين تماما وما يتقاضوه لإنجاز عرض مسرحي مرهق وشاق، هو شيء مضحك بحق.
ليس بعيدا عن مزاجنا العام في البلد جاء العرض المسرحي “تفل قهوة” وكأنه ترجيع صدى لأصوات الكثير من السوريين واللبنانيين الذي عانوا ويعانون من حرب كوت أفئدتهم، العرض الذي قارب الحالة السورية الراهنة بالحرب اللبنانية الأهلية من خلال قصة امرأة محاصرة، تبدأ تداعياتها التي تسببها الوحدة، بالكشف عن كمية التناقض الهائلة الموجودة في مجتمعاتنا العربية وما تحويه هذه التناقضات من زيف وخداع ورياء لم يقف عند حد، ولا عند حرمة لا دينية ولا أخلاقية، فالمثال المضروب في العرض يأتي بمنزل “إياك” وهو مثل فات وقته، إلا أن تناول هذه الثيمة خصوصا في الأسلوب الذي ذهب كاتب العمل إلى تقديمه عبر مونودراما السرد المباشر، الذي لم يحتف باللعبة المسرحية وعلاقتها بالجدار الرابع “الجمهور” إلا من خلال اللعب على مفردات مهترئة لم تعد تحرك فيه إلا هذا النوع البارد من رد الفعل، فالواقع سبق بأشواط بعيدة ما ردده العرض على لسان بطلته “مروة قرعوني” التي جاء أداءها خافتا نوعا ما في العرض الأخير، بعد أزمة صحية ألمت بها لكنها لم تغادر خشبة المسرح حتى أنهت آخر جملة لها بصوتها الذي يبدو منهكا، فمجمل الخطاب الذي وجهته “مروة” جاء متنافرا بين السرد العادي والصراخ الذي لم يلتزم بالحالة المرجوة، وإنما تُرك بتقديري لرغبة المؤدية أو تقديرها الشخصي.
ما كان لافتا هو الجرأة اللفظية التي تجاوزت الكثير من “التابوهات” والتحذيرات التي يدأب حراس الأخلاق على تحصينها بلا شيء! فهذا الخطاب المشحون بالقرف من مفردات الحياة اليومية التي تتقلب على أحوال الحرب، لا ريب سيغير أدوات  من يحيا به، ومن هذه الأدوات اللغة، التي يجزم الخبراء الاجتماعيون، أنها تنحدر انحدارا حادا في فترة الحروب تصبح “شوارعجية”.
حقيقة لا أدري مدى ضرورة مفردات لها إيحائها الجنسي الفاحش، للعرض الذي قدم على خشبة القباني، خصوصا وأن الجمهور لم يتفاعل معها كما توقع صناع العرض، بل انه مل من تكرارها أكثر من مرة، في الوقت الذي يستنفر به هذا الجمهور من هذه المفردات في الحياة اليومية بعد أن صارت شائعة وبكثرة، كما أن العرض لم يستطع أن ينجو من سطوة ذهنية “زياد الرحباني” المسرحية – والتي تعتبر أسلوباً خاصاً بزياد ومن معه، إن كان في مضمونه أو في أسلوبه، ومافات الكاتب ربما أن هذا الخطاب كان صالحا في السبعينات أما الآن، فزمن أخر “وين الدنيا وين أهلها”.
العرض بمقولته ذهب نحو إلقاء اللوم على الجميع، فالجميع حسبه متساوون في المصيبة، لكن هل هذا حقيقي؟ بمعنى  هل الجميع فعلا متساوون في المسؤولية عن هذا الواقع؟ وهل هذه حرب أهلية كما الحرب الأهلية اللبنانية “1975-1990″؟، إلا إن كانت مجريات العرض لا إسقاطات لها على الراهن المحلي السوري، وهذا يعني انتفاء السببية “الواعظة هنا” للعرض برمته.
إن كان ” تفل قهوة” هو صرخة مستمرة منذ 1975 حتى اللحظة، عن حال البلاد التي تحيا حروبا دائرة رحاها بين غرف النوم والمطابخ وفي الأدوار العلوية والسفلية، يقتل أبناؤها فيها بعضهم البعض، فهذا يعني أن علينا التفكير جدياً في مدى صوابية مقولاتنا المتوارثة والحال في سورية ليس شبيها البتة بما جرى في لبنان، وما هذا الواقع الذي تم استيراده في العرض إلا خطابا جديدا يبدو أنه علينا أن نتبناه في قادم الأيام في طبيعة خطابنا الثقافي أيضا، وهذا فيه شيء من الإجحاف بحال الكثير من السوريين الذين ماتوا وهم مقتنعون بأنهم ليسوا الأعداء بل “الحماة”!.
على المستوى البصري قدم “تفل قهوة” فرجة بصرية بعيدة عن روح الشخصية وطبيعة الحوار التفجعية والهجومية حينا والساخرة المتهكمة حينا آخر، تصلح لتكون شكوى ونجوى عاشقة مهجورة أكثر منها امرأة مقهورة، فالديكور البسيط -الذي يبدو لغرفة امرأة تضج بالرغبة التي لم تصرح عنها “مروة” في حوارها بقدر ما أخبر جسدها عنها في حركاتها المجهدة-، والأزياء المثيرة للشخصية، لا علاقة لها بما يجري في النص، بل هي لزوم الشيء “الإبهاري” لا أكثر، ليطغى اللون الأحمر -في دمجه بين الرغبة والدم- والإضاءة الرومانسية على أجواء العرض بغير مناسبة، إلا أن هذه التداعيات “السينوغرافية” الدالة ، جاءت متنافرة ولغة القوة والصراخ والخوف والضعف التي تغلب على وقعها أداء الممثلة، التي تركت عزلاء بنص هش ورؤية إخراجية لم تساعدها كثيرا في إنجاح مهمتها بقدر ما زادت من إجهادها.
لا دراية عندي عن التكلفة المادية التي تكبدتها وزارة الثقافة لاستيراد “تفل قهوة” بعد أن دعت إليه بكرم الجمهور المسرحي دعوة عامة بلا تذاكر، لكنني الأكيد وما نحن بحاجته في تطوير مسرحنا هو قليل من السخاء معه، الأمر الذي يبدو بعيد المنال حتى اللحظة.
تمّام علي بركات