ثقافة

في القول وأحواله

غسّان كامل ونّوس

الكلام بضاعة لا تفنى، وعمل لا ينتهي، وحاجة ومسؤوليّة وممارسة، لا يمكن الاستغناء عنها.
ولا شكّ في أنّ للقول أهمّيّته وضرورته وجدواه؛ لكنّه بقدر ما يسمو بالشخص، فقد يسقطه؛ إذ إنّ له مناسبته ووقته، وحيّزه المناسب. ويميل  بعض الناس إلى الحديث في كلّ شيء، وفي أيّ وقت؛ حتّى لو كانت القضيّة المطروحة لا تعنيهم، أو كانوا لا يفهمون فيها بالقدر الكافي، وحتّى إذا لم يكن مطلوباً منهم ذلك.
والحديث المفيد لازم؛ ولا سيّما في اجتماعات ولقاءات وندوات، قوامها قضايا وموضوعات للبحث والمناقشة والحوار. وقد تكون في عدم الإدلاء برأي مضرّة، أو ثغرة، أو غفلة؛ والمشاركة ضروريّة لشرح وتوضيح وتصويب. وربّما تدخل هذه الممارسة في صلب عمل المرء، أو هي من مسؤوليّاته ومهمّاته. وقد يكون الكلام في موضوع يهمّه، ولديه خبرة فيه؛ فعليه أن يدلو بدلوه، ففي السكوت خسارة، أو مشاركة في التجهيل أو التضليل، أو هو بخل مكروه وحياء مقيت.
وللحديث أصول؛ كما لا يخفى؛ فباستئذانٍ، وفي القضيّة المثارة، وبالقدر الذي يتطلّبه الأمر، من دون الاستفاضةِ غير المسوّغة، والاستطرادِ الاستعراضيّ المجّانيّ، والخروجِ على الموضوع، واستهلاكِ الوقت المقدّر بالتحيّات والتمهيد، ومن ثمّ يعرض ما تبقّى بسرعة واختصار واجتزاء…
كما أنّ أسلوب العرض يختلف، حسب المقام، ومن الضروريّ إيلاؤه العناية اللازمة؛ فليس مناسباً الابتداء بالاتّهام، أو التعريض، أو التهكّم، أو الرفض الكلّي؛ وليس مناسباً رفع الصوت أكثر ممّا هو منتظر للإسماع والتعبير…
ولا يجوز التدخّل في الحديث، حتّى في اللقاءات غير الرسميّة، إلّا وفق شروط الاحترام لِما يقال، ومن يقول.. ومن ثمّ، يكون الدخول الإيجابيّ والمغْني. ومن الناس من لا يسمع ما يقال؛ متشاغلاً بأحاديث جانبيّة، أو منشغلاً بأدواته وهيئته، أو شارداً، أو غير مهتمّ؛ أو لا يريد أن يسمع؛ مكتفياً بما لديه، متعالياً عمّا يدور.. ثمّ يبدأ الحديث من دون أن يكون كلامه منسجماً مع السياق، أو مناسباً للقاء، أو محترماً للآراء والأفكار وأصحابها والمستمعين.
ومنهم من يأتي متأخّراً، ثمّ يكون أوّل المتحدّثين أو المعلّقين بأشياء عامّة، قد تخصّ الموضوع من بعيد، أو تتعلّق بالمنتدين شخصيّاً؛ لا بما هو قائم عليه النشاط؛ ومنهم من لا يسمع إلّا نفسه، يقوم أوّلاً، يتحدّث، وحين ينتهي، يمضي في سبيله. ومن المهمّ بمكان تحديد وقت الكلام حتّى للرسميّين؛ فلا يعني كونك مسؤولاً، أنّ وقتك مفتوح للحديث بلا ضابط أو قيد؛ فوقت الآخرين ليس كذلك، حتّى لو كانوا في نطاق أمرتك أو رعايتك؛ كما ينطبق ذلك على أيّ من المحاضرين، ووفق المناسبة وعدد المشاركين وأدوارهم. والأهمّ أن تقول ما تريد إيصاله إلى الآخرين،من على هذا المنبر، وضمن هذا الحيّز، وأن تستطيع طرح ما هو مهمّ، والأفكار التي جئت، أو حضّرت نفسك لقولها، من دون إهدار الوقت بالأمثلة والحكايات بعيداً عن لبّ المسألة؛ ومنهم من يحبّ الحديث عن نفسه، فيبدأ ولا يكاد ينتهي، أو يبالغ في التمثيل والاستعراض؛ كما أنّ من المهمّ اختيار الحديث المناسب والصياغة الملائمة للجمهور؛ فالكلام إلى مختصّين غير الحديث إلى شرائح مختلفة ومستويات متفاوتة، حتّى لو كان الموضوع ذاته؛ كما من المهمّ عدم المبالغة في الاستعطاف والاسترحام، أو التخويف والترهيب في أيّ أمر. وهناك دائماً، في أيّ موضوع، وأيّ وقت، قدر ضروريّ من التقارب مع الناس، يجب أن يحسنه المتحدّث، أو على الأقلّ يهتمّ به؛ ولطريقة الجلوس والنظر واللفظ دور في وصول الرسالة أو ضياعها؛ ومن المهمّ دائماً أن يشعر المتلقّون بثقة المتحدّث بنفسه، وأنّه متشبّع بموضوعه، مستوعب ومتفهّم ومتمثّل لما جاء يقول؛ كما من المهمّ في التقديم للقاء، الإشارة إلى أهمّيّة من سيتحدّث، والتمهيد بما يناسب، وعدم المبالغة في الإطناب والامتداح وإضفاء الألقاب، التي تترك ردود أفعال سلبيّة، فيحاول أيّ من الحاضرين متابعة الهنات، وتقصّي ما يخالف ذلك التهويل، وينسى الموضوع المطروح، أو يتغافل عن الحديث فيه وعنه. والأهمّ أن نحاول دائماً قول ما يفيد، وفي وقت مناسب، وبأسلوب سلس ومحبّب؛ فكم هو الفرق كبير بين أن يستبقيَك الناس مطالبين بالمزيد، وبين تبرّمهم، أو تغافلهم، والتذكير بالوقت، وصولاً إلى التصريح بطلب الانتهاء، أو التعبير عن ذلك بأيّة أساليب غير مريحة، قد تصل إلى الاحتجاج المعلن، والتذمّر، والمغادرة بلا عودة.