خمسون عاماً على رحيل الفنان العراقي ناظم الغزالي
يستذكر الفن العربي الأصيل نجماً لامعاً وفناناً رائداً تميزت أعماله في مجال غناء المقامات والقصائد العربية بحس مرهف أطرب المسامع والنفوس في كل أنحاء الوطن العربي فاستحقت لقب سفير الأغنية العربية.
ولد الفنان ناظم الغزالي في منطقة الحيدر خانة في بغداد التحق بمعهد الفنون الجميلة قسم المسرح، ليحتضنه فيه فنان العراق الكبير (حقي الشبلي) نجم المسرح العراقي وقتها، حين رأى فيه ممثلاً واعداً يمتلك القدرة على أن يكون نجماً مسرحياً، لكن الظروف المادية القاسية التي جعلته يتردد كثيراً قي الالتحاق بالمعهد نجحت في أبعاده عنه ليعمل مراقباً في مشروع الطحين بأمانة العاصمة بغداد.
الممثل مطرباً
عاد ناظم الغزالي إلى معهد الفنون الجميلة لإكمال دراسته، ليأخذ الفنان حقي الشبلي بيده ثانيةً ويضمه إلى فرقة (الزبانية) ويشركه في مسرحية (مجنون ليلى) لأمير الشعراء أحمد شوقي في عام 1942 ولحن له فيها أول أغنية شدا بها صوته وسمعها جمهور عريض، أغنية (هلا هلا) التي دخل بها إلى الإذاعة والتي حوّل على أثره ناظم اتجاهه، تاركاً التمثيل المسرحي ليتفرغ للغناء وسط دهشة الموسيقيين له الذين لم يروا ما يبرر هذا القرار، خاصة أن ناظم كان يغني في أدواره المسرحية، إلا أن وجهة نظره كانت أنه لكي يثبت وجوده كمطرب لا بد أن يتفرغ تماما للغناء، تقدم إلى اختبار الإذاعة والتلفزيون, بين عامي 1947-1948 وانضم إلى فرقة الموشحات التي كان يديرها الموسيقار علي الدرويش والتي كان فيها عدد كبير من المطربات والمطربين، كان صوته يعتبر من الأصوات الرجالية الحادة (التنوير الدرامي) وهو الصوت الرجالي الأول في التصنيفات الغربية، أما مجاله الصوتي فيراوح بين أوكتافو نصف إلى أوكتافين. وتنحصر حلاوة الأماكن في صوت الغزالي بين النصف الأول والثاني من الأوكتافين، بهذا الشكل تكون مساحة صوته قد زادت على أربع عشرة درجة في السلم الموسيقي، ومع انفتاح حنجرته كانت قدرته غير العادية على إجادة الموال، وتوصيل النوتات بوضوح، بجوابه المتين وقراره الجيد في مختلف ألوان المقامات وأنواعها، فقد أجاد الغزالي الموال باعتراف النقاد وكبار الموسيقيين العرب الذين عاصروه وما كان يميزه في ذلك معرفته وتعمقه في المقامات العراقية وأصولها إضافة إلى ذلك انفتاح حنجرته وصفاؤها وكذلك جوابه المتين وقراره الجيد في مختلف المقامات وأنواعها.
نشاطه الفني
منذ بداية الخمسينيات بدأت أغنيات الغزالي تعبر الحدود فسافر إلى عدة دول وأقام عدة حفلات في كثير من الدول العربية وأصبح سفيراً للأغنية العراقية، وبداية الخمسينات هي الفترة التي شهدت تطوراً وربما انقلابا ملحوظاً في غالبية مقاييس الغناء في العراق ومواصفاته، وبدأت الأغنية المتكاملة تظهر مع أغنيات ناظم الغزالي التي نفاجأ اليوم حين نسمعها بوجود لوازم موسيقية ضمن توزيع موسيقي تتعدد فيه الآلات الغربية والشرقية.
لقد غنى الغزالي لأشهر الشعراء العرب منهم أبو فراس الحمداني حيث غنى له:
أقول وقد ناحت بقربي حمامةٌ أيا جارتا لو تعلمين بحالي
ثم غنى لإيليا أبو ماضي:
أي شيء في العيد أهدي إليكِ يا ملاكي وكل شيء لديك
وللعباس أبن الأحنف (يا أيها الرجل المعذب نفسه)، ولغيرهم من كبار شعراء العربية، ولولا وفاته المبكرة ربما لم يكن ليترك كلمة في عيون تراث الشعر العربي إلا وغناها وأمتعنا بها، هكذا أخرج القصائد من دواوينها وجعلها تجري على لسان أبسط الناس الذين أحبوا كلماتها وأحبوا أكثر الصوت الذي نقلها إلى أذنهم بنبرة الشجن الشائعة في الأصوات العراقية والعربية، وإن زاد عليها نبرةً أكثر حزناً بأدائه الدرامي الذي اختلطت فيه الحياة القاسية التي عاشها، فأبدع في الوصف وهو القائل:
عيرتني بالشيبب وهو وقارُ ليتها عيرت بما هو عارُ
قام الغزالي بالخروج على الشكل التقليدي في أداء الأغنية، فانتشرت العديد من أغانيه في الوطن العربي كله، رغم خروجها من بيئة ذات طبيعة شديدة الخصوصية مثل أغنيات “طالعة من بيت أبوها، ما ريد الغلوبي، حيك بابا حيك، أحبك، فوق النخل فوق” وغيرها من الأغاني، فكانت حفلاته في دمشق وحلب واللاذقية وحمص ثم انتقاله إلى بيروت ولندن وباريس وعمان والكويت والمغرب وغيرها من الدول دليلاً على أصالة هذا الفنان العربي مما أطرب عشاقه ومحبيه:
لها خالٌ على صفحات خدٍ كنقطة عنبر في صحن مرمر
رحل ناظم الغزالي في 29/10/1963، مخلفاً وراءه تراثاً غنائياً لازالت الأجيال تترنم به وتستعيد من خلاله ذكرى فنان كان بحق سفير الأغنية العربية إلى العالم.
د.رحيم هادي الشمخي